في الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الأميركية إلى الانتقال إلى ما تسميه المرحلة الثانية من اتفاق غزة، تكشف وثائق مسرّبة وتقارير من مسؤولين غربيين عن مقترح أميركي جديد لإنشاء ما يُعرف بـ"الحزام الإنساني" داخل القطاع. الخطة، التي يُفترض أن تحلّ محلّ "مؤسسة غزة الإنسانية" المثيرة للجدل، تعكس — وفق مراقبين — محاولة أميركية لإعادة رسم مشهد الإغاثة في غزة بطريقة تُعيد ضبط الأدوار المدنية والأمنية في آنٍ واحد.
"حزام إنساني" بين خطوط السيطرة
بحسب وثيقة اطّلعت عليها وكالة "رويترز"، تقوم الفكرة الأساسية على إنشاء منظومة من 12 إلى 16 مركز مساعدات تمتدّ على طول الخط الذي تمركزت عنده القوات الإسرائيلية داخل غزة.
هذه المراكز، التي تشكّل العمود الفقري لما يُعرف بـ"حزام غزة الإنساني"، ستخدم المدنيين على جانبي هذا الخط، وتُدار بالتنسيق بين مركز التنسيق المدني–العسكري الأميركي ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية.
إحدى النقاط الأكثر إثارة للجدل في المقترح هي ما تسميه الوثيقة "مرافق المصالحة الطوعية"، وهي أماكن مخصّصة للمقاتلين الراغبين في تسليم أسلحتهم مقابل عفو، على أن تُدار من قِبل قوة استقرار دولية تشارك فيها وحدات أمنية متعددة الجنسيات.
وتهدف الخطة إلى أن يجري إيصال جميع المساعدات عبر هذه المراكز خلال 90 يوماً فقط، مع مراقبة الطائرات المسيّرة لضمان أمن القوافل ومنع اعتراضها من قبل حركة حماس أو أي فصيل آخر.
بديل عن "مؤسسة غزة الإنسانية" أم إعادة تلميعها؟
الخطة الجديدة تتضمّن كذلك خيارين: استيعاب مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة أميركياً ضمن المنظومة الجديدة، أو استبدالها بالكامل بمنظمات دولية معروفة مثل الصليب الأحمر و*"محفظة السامري"*، وهي منظمة إغاثة مسيحية إنجيلية أميركية.
المتحدث باسم "محفظة السامري"، ستيفن سنيد، أكّد أن منظمته "تلقت عرضاً للمشاركة في الخطة الأميركية لتقديم المساعدات لأهالي غزة، لكن التفاصيل لا تزال قيد التطوير".
أما مؤسسة غزة الإنسانية، التي كانت قد أوقفت عملياتها مؤقتاً قبل أسبوعين، فأعلنت تمسكها بالاستمرار في تقديم المساعدات "طالما أن الحاجة قائمة"، مشيرة إلى أنها تملك تمويلاً كافياً حتى نهاية نوفمبر المقبل.
لكن خلف هذا النقاش الإداري، يختبئ سؤال سياسي أعمق: هل تسعى واشنطن إلى إعادة صياغة إدارة المساعدات كوسيلة لضبط الأمن الميداني، وتخفيف الانتقادات الموجهة إلى "نموذج عسكرة الإغاثة" الذي اتُّهمت به المؤسسة السابقة؟
تحفّظ أممي وتشكيك إنساني
مصادر أممية ودولية أبدت قلقاً بالغاً من المقترح، خصوصاً أن بنيته التشغيلية تشبه إلى حدٍّ كبير نموذج "مؤسسة غزة الإنسانية"، الذي قوبل سابقاً برفض من الأمم المتحدة.
أحد مسؤولي الإغاثة الدوليين، طلب عدم كشف هويته، قال إن "وصف المراكز في الوثيقة الأميركية يذكّر بمواقع توزيع المؤسسة السابقة في مناطق كانت تحت سيطرة القوات الإسرائيلية"، مضيفاً أن "الخلط بين النشاط الإنساني والترتيبات الأمنية يُهدد مبدأ الحياد الذي تقوم عليه عمليات الإغاثة".
وفي المقابل، دافع مسؤول أميركي عن الخطة قائلاً إنها "مجرد أحد المفاهيم قيد الدراسة، وليست الخطة الوحيدة قيد البحث"، نافياً أن تكون واشنطن قد حسمت قرارها بشأن تنفيذها.
عسكرة الإغاثة بين السياسة والميدان
تعود جذور الجدل إلى العام الماضي، حين دفعت إدارة ترامب نحو إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" كمظلة لإدارة المساعدات بعيداً عن قنوات الأمم المتحدة، بدعوى أن الأخيرة "تفتقر إلى المرونة وتخضع لنفوذ حماس".
لكن منظمات الإغاثة والأمم المتحدة اتهمت المؤسسة بأنها حوّلت المساعدات إلى أداة سياسية، عبر إقامة نقاط توزيع مؤمنة بقوات مسلّحة أجبرت السكان على النزوح نحو مناطق محددة، وهو ما اعتُبر خرقاً صارخاً لقواعد القانون الإنساني.
الخطة الجديدة، وإن كانت تحمل ملامح أكثر تنظيماً، إلا أنها تُعيد طرح الإشكالية ذاتها: هل يمكن للفصل بين الأمن والإغاثة أن يُطبّق في بيئة محاصرة ومخترقة أمنياً مثل غزة؟
"الإغاثة كجسر سياسي"
في ضوء استمرار الانقسام الفلسطيني وتعقّد الموقف الإسرائيلي، يبدو أن واشنطن تحاول توظيف ملف المساعدات كجسرٍ نحو مرحلة سياسية جديدة في غزة — مرحلة تُراد لها أن تجمع بين نزع السلاح وضبط المجتمع المدني تحت غطاء إنساني.
لكن الطريق إلى تنفيذ هذا السيناريو يبدو محفوفاً بالألغام، ليس فقط من قبل الفصائل الفلسطينية، بل أيضاً من المنظمات الدولية التي ترى أن أي محاولة لإدارة الإغاثة من الخارج دون سيادة فلسطينية حقيقية، ستكرّس نموذج "الاحتلال الإنساني" الذي طالما حذرت منه الأمم المتحدة.