في مشهد لم تعرفه العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية منذ عقود، نقل موقع بوليتيكو عن مصادر في البيت الأبيض أن حالة من الإحباط العميق تسود بين أركان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه حكومة بنيامين نتنياهو، بعد سلسلة من التصرفات الإسرائيلية التي اعتُبرت تحديًا مباشرًا لواشنطن.
فبين الضربات الجوية العشوائية على غزة التي أودت بحياة عشرات المدنيين، والتحركات داخل الكنيست لضم الضفة الغربية، يجد ترامب نفسه أمام حليفٍ “عصِيّ على الانضباط”، يهدد بنسف الخطة الأمريكية للسلام، ويضع الإدارة الأمريكية أمام اختبار حقيقي لهيبتها في الشرق الأوسط.
زيارات متكررة.. ومحاولات فاشلة للسيطرة على الموقف
بحسب التقرير، فقد أوفد ترامب خلال الأيام الأخيرة كبار مسؤولي إدارته إلى إسرائيل، في مساعٍ متكررة لاحتواء الأزمة وضمان استمرار وقف إطلاق النار الهش في غزة.
وضمّ الوفد نائب الرئيس جي دي فانس، والمبعوثين جاريد كوشنر وستيف ويتكوف، ووزير الخارجية ماركو روبيو، وجميعهم حملوا رسائل واضحة مفادها أن أي تصعيد إسرائيلي جديد سيُعتبر تحديًا مباشرًا للبيت الأبيض.
لكن الاجتماع الذي جمع فانس بنتنياهو في القدس الأربعاء، كان نقطة تحوّل: إذ نقل فانس “رسالة حازمة” من ترامب، حذر فيها الأخير من “ضربة سياسية كبيرة” في حال واصلت إسرائيل خرق الاتفاق.
ورغم تعهد نتنياهو بأن الرد الإسرائيلي على مقتل جنديين من الجيش سيكون “محدودًا ومدروسًا”، فإن الغارات التي تلت اللقاء أسفرت عن مقتل أكثر من 40 مدنيًا في غزة — ما فجّر موجة غضب داخل واشنطن.
“إسرائيل خارج السيطرة”.. الغضب الأمريكي يطفو إلى السطح
أحد المسؤولين الأمريكيين الكبار، نقلًا عن بوليتيكو، وصف المشهد بوضوح قائلاً لحليف عربي: “إسرائيل باتت خارج السيطرة.”
هذه العبارة المختصرة تعكس عمق الأزمة السياسية داخل البيت الأبيض، حيث يرى عدد من كبار مستشاري ترامب أن نتنياهو لم يعد “شريكًا موثوقًا” بل “عبئًا دبلوماسيًا” يهدد بتقويض ما تبقى من مصداقية الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، تشير التسريبات إلى أن ترامب يفكر في إعادة تقييم العلاقة الأمنية مع إسرائيل، وأنه أبلغ مقربين منه بأن الدعم العسكري "لن يكون بلا شروط بعد الآن"، خاصة في ظل استمرار الغارات التي تتعارض مع جوهر الخطة الأمريكية للسلام في غزة.
الضم.. القشة التي قد تقصم التحالف
لم يتوقف التوتر عند حدود غزة، بل تصاعد أكثر بعد طرح مقترح ضم الضفة الغربية للتصويت داخل الكنيست، في خطوة وُصفت داخل واشنطن بأنها “استفزاز متعمّد” لترامب شخصيًا.
وفي مقابلة مع مجلة تايم، حذر الرئيس الأمريكي قائلاً: “إذا أقدمت إسرائيل على ضم الضفة، فستفقد كل أشكال الدعم الأمريكي.”
هذا التحذير العلني، الذي أيدته شخصيات رئيسية في الإدارة — من فانس إلى كوشنر وروبيو — يُعد الأول من نوعه منذ عقود، إذ لم يسبق لرئيس أمريكي أن استخدم لغة التهديد المباشر ضد إسرائيل بهذه الحدة.
وقد أكّد مصدر في البيت الأبيض أن هذه المواقف “تعكس بدقة مشاعر الرئيس الحقيقية، وليست مجرد ضغط تكتيكي.”
نتنياهو يتراجع خطوة: “الكنيست يستفزني”
في محاولة لاحتواء الغضب الأمريكي، أصدر نتنياهو بيانًا يوم الخميس قال فيه إن تصويت الكنيست لصالح الضم “يمثل استفزازًا سياسيًا متعمّدًا من قبل المعارضة”، هدفه “إشعال التوتر بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس فانس”.
لكن الموقف بدا دفاعيًا أكثر منه تفسيرًا، إذ يرى مراقبون في تل أبيب أن نتنياهو يعيش لحظة ضعف غير مسبوقة أمام واشنطن، وأنه فقد السيطرة على توازنات الداخل الإسرائيلي بعد اتساع الهوة بين الائتلاف الحاكم والمعارضة.
واشنطن تعيد ضبط البوصلة
ما يجري اليوم هو إعادة تعريف للتحالف الأمريكي–الإسرائيلي.
فترامب، الذي لطالما قدّم نفسه كأقرب حليف لتل أبيب، بات يرى في إسرائيل مصدر إرباك استراتيجي يهدد طموحاته في إعادة ترتيب الشرق الأوسط على أسس “سلام مضبوط بالإرادة الأمريكية”.
الإدارة الأمريكية تريد أن تُظهر — أمام الداخل والخارج — أن العلاقة مع إسرائيل ليست شيكًا على بياض، وأن واشنطن قادرة على فرض حدودها حتى على أقرب حلفائها.
ويُقرأ هذا التحول في واشنطن كجزء من استراتيجية ترامب الجديدة للانتخابات المقبلة: استخدام الملف الإسرائيلي كورقة مزدوجة — يظهر من خلالها قوته في كبح الحلفاء، وفي الوقت نفسه يقدم نفسه كـ“صانع السلام الوحيد القادر على ضبط الشرق الأوسط”.
تحالف يتصدّع أم إعادة تموضع؟
الرسائل المتبادلة بين واشنطن وتل أبيب تعكس بداية تصدّع عميق في التحالف التقليدي بين الطرفين.
فإسرائيل تجد نفسها أمام إدارة أمريكية أكثر صرامة من أي وقت مضى، بينما يحاول ترامب أن يرسم حدودًا جديدة للنفوذ، تجعل من البيت الأبيض المرجعية الوحيدة في كل ما يتعلق بملف غزة والضفة.
وفي ظل استمرار الغارات والجدل حول الضم، يبدو أن التحالف الأمريكي–الإسرائيلي يمرّ بأخطر اختبار سياسي منذ عقود — اختبار لا يهدد فقط توازن القوة في الشرق الأوسط، بل يعيد أيضًا تعريف من يملك القرار داخل هذا التحالف التاريخي: هل هي تل أبيب؟ أم واشنطن التي قررت أخيرًا أن تقول "كفى"؟