من صانع الصفقة إلى حاكم الميدان: ترامب يُعيد رسم حدود القرار الإسرائيلي في غزة

أماني إبراهيم

2025.10.24 - 10:46
Facebook Share
طباعة

بينما تبدو تحركات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ملف غزة كأنها مسعى لإحلال السلام، فإن قراءة أعمق لمجريات الموقف تكشف أن البيت الأبيض يستخدم الهدنة كأداة لإعادة هندسة ميزان النفوذ في الشرق الأوسط، وبخاصة داخل إسرائيل نفسها.
فترامب، الذي بنى جزءًا كبيرًا من صورته السياسية على كونه "صانع الصفقات الكبرى"، يتحول اليوم إلى "حاكم الميدان" فعليًا، يمسك بخيوط القرار في غزة ويعيد تعريف حدود الدور الإسرائيلي.
لكن خلف هذه الدينامية المعلنة، تكمن حسابات انتخابية أمريكية دقيقة، يسعى من خلالها ترامب إلى إظهار قدرته على “ضبط إسرائيل” وتقديم نفسه أمام الداخل الأمريكي والعالم كزعيم قادر على فرض السلام بالقوة.

 


ترامب يضغط على نتنياهو: “إما الالتزام أو الانعزال”

وفقًا لتقرير فاينانشال تايمز، فإن ترامب لم يُخفِ غضبه من نتنياهو بعد أن حاولت حكومته الالتفاف على اتفاق وقف إطلاق النار. وقد نقل أحد المطلعين أن الرئيس الأمريكي قال بوضوح: “توقفوا عن ذلك... لا يمكنكم الإفلات من الخطة.”

 

هذا التصريح ليس مجرد توبيخ سياسي؛ بل إشارة إلى تحوّل في ميزان القوة بين واشنطن وتل أبيب. فالإدارة الأمريكية باتت ترى أن الحفاظ على مصداقية الخطة يستلزم كبح اندفاع إسرائيل، ولو تطلب ذلك ضغطًا علنيًا على نتنياهو نفسه.
ويبدو أن ترامب يدرك أن أي إخفاق في تنفيذ الهدنة سيُفقده ورقة سياسية ثمينة أمام الناخب الأمريكي، الذي تعب من الحروب العبثية ويميل إلى خطاب “الإنجاز السريع” الذي يقدمه ترامب.

 

الخطة الأمريكية: غزة تحت إشراف “ترامب الدولي”

الخطة التي طرحها ترامب في نهاية سبتمبر لم تترك مجالًا كبيرًا للمناورة، إذ تضمنت:

وقفًا شاملًا لإطلاق النار.

تبادلًا سريعًا للرهائن خلال 72 ساعة.

تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية بإشراف دولي مباشر.

إقصاء “حماس” عن أي دور في إدارة القطاع.

ترؤس ترامب نفسه لمجلس الإشراف الدولي على غزة.


هذه البنية تكشف أن ترامب لا يسعى إلى تسوية بقدر ما يسعى إلى نموذج إدارة أمريكية مباشرة للملف الفلسطيني، مستندًا إلى شرعية “الوسيط القوي” الذي يفرض السلام بالقوة لا بالتفاوض.
لكن عمليًا، فإن ذلك يعني وضع غزة — ولأول مرة منذ عقود — تحت وصاية أمريكية غير معلنة، تجعل من ترامب اللاعب الوحيد القادر على تقرير مصير القطاع، بل وعلى تقييد حركة إسرائيل داخله.

 

نتنياهو في مأزق داخلي: بين يمين غاضب ووصاية أمريكية ثقيلة

في إسرائيل، تُترجم هذه التطورات إلى أزمة سياسية متفاقمة.
فمن جهة، يريد نتنياهو تجنب مواجهة مباشرة مع ترامب خوفًا من فقدان الدعم الأمريكي الحيوي.
ومن جهة أخرى، يواجه ضغوطًا داخلية من اليمين القومي والديني، الذي يرى أن قبول الخطة يمثل “استسلامًا لإملاءات واشنطن”.
هذا التناقض يضع نتنياهو في وضع دفاعي غير مسبوق، حيث تحوّل ترامب من حليف إلى وصيٍّ سياسي عليه، يفرض عليه جدول أعمال ميدانيًا وسياسيًا ويقيّد خياراته العسكرية.

 


الهدنة الهشّة: بين رغبة واشنطن في الاستقرار ومخاوف غزة من التهميش


على الأرض، تُظهر مؤشرات الهدنة هشاشة الوضع الإنساني والأمني في غزة.
فالمساعدات تصل بوتيرة بطيئة، والفراغ السياسي الناتج عن إقصاء الفصائل يهدد بانفجار اجتماعي جديد.
وتحذّر تقارير أممية من أن “الاستقرار القسري” الذي تفرضه الخطة قد يتحول إلى هدوء زائف يخفي تحت سطحه موجات غضب مؤجلة، خاصة مع غياب ضمانات حقيقية لإعادة الإعمار أو مشاركة الفلسطينيين في القرار.

 


ترامب والمصلحة الشخصية: “غزة” كورقة انتخابية ومختبر سلطة

في الجوهر، لا ينفصل سلوك ترامب عن حساباته الداخلية في واشنطن.
فهو يستثمر ملف غزة كمنصة لإظهار قوته الدولية واستقلاله عن المؤسسة السياسية الأمريكية التقليدية.
ويسعى من خلال “صفقة غزة” إلى تحقيق ثلاثة أهداف متداخلة:

1. تعزيز صورته كزعيم قادر على إخضاع الحلفاء قبل الخصوم.


2. إعادة تسويق نفسه في الداخل الأمريكي كصانع إنجازات عالمية.


3. توظيف الملف الإسرائيلي لاستعادة أصوات القاعدة المسيحية الإنجيلية التي تؤيد إسرائيل ولكنها تفضّل “سلامًا منضبطًا”.

 

بهذا المعنى، تتحول غزة من ساحة حرب إلى منصة اختبار لزعامة ترامب، ومن ملف إنساني إلى ورقة نفوذ في سباق البيت الأبيض.

 


“سلام ترامب” بين النفوذ والوصاية

بين الصورة التي يسوّقها ترامب كزعيم للسلام، والواقع الذي تراه إسرائيل كقيد على حركتها، تتشكل مرحلة جديدة من الصراع.
مرحلة عنوانها: أمريكا لا تكتفي بصياغة الصفقة، بل تُمسك بخيوط تنفيذها على الأرض.
وفي حين ينتظر العالم نتائج الهدنة في غزة، تبدو الحقيقة الأوضح أن ترامب لا يعيد فقط رسم حدود الميدان، بل يعيد أيضًا رسم حدود الدور الأمريكي نفسه — من راعٍ للسلام إلى حاكم فعلي للمشهد الشرق أوسطي.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 9