تواجه محاولات إنعاش النظام المصرفي اللبناني عقبات بنيوية ناجمة عن سياسات حكومية متناقضة وتوجيهات دولية غير منسقة، ما جعل من الصعب تحقيق التوازن بين السيطرة على الاقتصاد النقدي وإعادة بناء الثقة بالقطاع المالي الرسمي، فالظروف الراهنة تكاد تضمن استمرار هيمنة التعاملات النقدية وتراجع البنوك التقليدية.
توسع شركات النقد ودورها الاقتصادي:
أدى دعم الدولة المباشر وغير المباشر لشركات النقد – بما في ذلك مشغلو التحويلات وبيوت الصرافة والمنافذ المالية غير المصرفية – إلى ترسيخ واقع موازٍ للنظام المصرفي إذ فوضت الحكومة هذه الشركات بجمع الضرائب وتحصيل إيرادات عامة تُحتفظ بها في حساباتها الخاصة، ما مكّنها من استخدام تلك الأموال في أنشطة تجارية وإقراضية، هذه الدينامية منحتها قدرة تنافسية عالية بفضل انخفاض تكاليفها مقارنة بالبنوك الخاضعة للقيود التنظيمية ورقابة مصرف لبنان.
في المقابل، تواجه المصارف قيودًا حادة على السحب والتحويل، إضافة إلى أعباء إدارية ومشكلات سيولة متراكمة، ما أدى إلى تراجع دورها في تمويل النشاط الاقتصادي وتزايد اعتماد الأفراد والمؤسسات على النقد في معاملاتهم اليومية.
الراحة كعامل تنافسي:
توسع انتشار شركات النقد في المدن والأحياء جعل التعامل معها أكثر سهولة وسرعة من النظام المصرفي التقليدي. وبالنسبة لكثير من المواطنين، أصبحت هذه المنافذ أكثر موثوقية وقدرة على تلبية الاحتياجات اليومية، مثل تحويل الأموال أو تسديد المدفوعات النقدية بالدولار ومع تقلص الشبكة المصرفية، تحولت هذه الشركات إلى مكوّن رئيسي في الحياة الاقتصادية، تعمل في الغالب خارج الإطار التنظيمي المباشر.
تأثير الجمود مع صندوق النقد الدولي:
ساهم الجمود المستمر في المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي في تعميق الاعتماد على النقد فشروط الصندوق المتعلقة بإعادة هيكلة البنوك وإلغاء حقوق المساهمين قبل التقييم الشامل عطلت مسار الإصلاح، وبدلاً من عملية تدريجية لإعادة الرسملة واستعادة الثقة، بقيت المصارف في حالة شلل، ما دفع المواطنين للاحتفاظ بأموالهم نقداً أو التعامل عبر قنوات غير مصرفية.
اتساع حجم الاقتصاد النقدي:
تشير التقديرات إلى أن نحو 70% من المعاملات الاقتصادية في لبنان تتم نقداً، معظمها بالدولار الأميركي هذا الحجم الكبير خارج النظام المصرفي يضعف أدوات السياسة النقدية التقليدية، مثل معدلات الفائدة ومتطلبات الاحتياطي.
ومع استمرار تدفق النفقات العامة والمساعدات عبر شبكات نقدية، تزداد قوة هذه السوق الموازية على حساب البنوك الرسمية.
معضلة هيكلية:
أدت السياسات قصيرة المدى الهادفة إلى تسهيل المعاملات اليومية إلى إضعاف المؤسسات المصرفية التي تمثل ركيزة الاستقرار المالي كما أن مقاربة بعض المؤسسات الدولية التي تركز على معالجة الديون دون إعادة تنشيط الوساطة المالية زادت من تعقيد الأزمة. والنتيجة هي بروز اقتصاد مزدوج: قطاع رسمي محدود النشاط، وآخر غير رسمي مهيمن يعتمد على النقد.
الطريق إلى الإصلاح:
يرى خبراء أن لبنان يحتاج إلى مراجعة شاملة للسياسات المالية والمصرفية بهدف استعادة التوازن بين النقد والمصارف. ويشمل ذلك إخضاع شركات النقد لإطار رقابي متكافئ، وتنفيذ خطة رسملة موثوقة تعيد الثقة إلى المودعين، وتبني مقاربة دولية واقعية تركز على إعادة بناء الوساطة المالية لا فقط على تصفية الديون.
في ظل المعطيات الحالية، يصعب على لبنان في آن واحد مكافحة الاقتصاد النقدي وإحياء قطاعه المصرفي، استمرار الاعتماد المفرط على النقد يقوّض فرص التعافي الاقتصادي ويزيد المخاطر المرتبطة بالشفافية والرقابة. الإصلاح الفعلي يتطلب توازناً بين السيولة النقدية والوساطة المصرفية، وسياسات تُعيد الثقة بالنظام المالي الرسمي كشرط أساسي لاستقرار الاقتصاد الوطني.