التنقيب المؤجّل: خمس سنوات تنتظر بئر الغاز الأولى في لبنان

2025.10.23 - 09:32
Facebook Share
طباعة

 يستعد مجلس الوزراء اللبناني لمناقشة اقتراح وزير الطاقة والمياه جو صدّي القاضي بمنح اتفاقية استكشاف وإنتاج في الرقعة رقم 8 من المياه البحرية اللبنانية إلى كونسورتيوم يضم شركات توتال إنرجيز الفرنسية، إيني الإيطالية، وقطر للطاقة.
لكنّ الاقتراح المطروح يثير أسئلة جوهرية حول جدوى التوقيت والمصلحة الوطنية، وسط ملاحظات واسعة على مضمون العرض، وتأجيل متوقّع لحفر أول بئر تنقيب إلى ما لا يقلّ عن خمس سنوات.


بنود الاتفاق المقترح
يتضمّن المشروع الذي يناقشه مجلس الوزراء مجموعة التزامات وشروط فنية واقتصادية، أبرزها قيام الشركات المالكة للحقوق في الرقعة رقم 8 خلال فترة الاستكشاف الأولى (ثلاث سنوات) بتنفيذ مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد لمساحة لا تقل عن 1200 كيلومتر مربع، إلى جانب دراسات تقييمية للبيئة الترسيبية والنظام البترولي في المنطقة.
ويُعدّ هذا المسح جزءاً من الحد الأدنى لموجبات العمل في المرحلة الأولى، على أن يُسحب الترخيص في حال عدم إنجازه ضمن المهلة المحددة.

أما في المرحلة الثانية من الاستكشاف، ومدتها سنتان، فيُمنح الائتلاف خيار حفر بئر استكشاف واحدة على الأقل، على أن يصبح هذا الخيار إلزامياً عند الدخول في تلك المرحلة.
كذلك نصّ الاقتراح على تحديد نسبة تقاسم الإنتاج بين الدولة والائتلاف بما يتراوح بين 30% و40% للدولة من “بترول الربح”، مع سقف استرداد كلفة يبلغ 80%، وهي أرقام يرى خبراء أنها تقلّص فعلياً حصة لبنان مقارنة بالعقود السابقة.


تراجع عن قرارات سابقة
اللافت أن الطرح الحالي يناقض ما أقرّته الحكومة السابقة في جلسة 12 كانون الثاني 2024، حين ألزمت الشركات بإتمام المسح الزلزالي خلال سنة واحدة فقط من توقيع الاتفاقية.
النسخة الجديدة مدّدت المهلة إلى ثلاث سنوات، ما يعني عملياً أن أول بئر تنقيب لن تُحفر قبل خمس سنوات على الأقل، بين التحضير، والمسح، وتحليل البيانات، وبدء الحفر الفعلي.

في المقابل، كانت شركة TGS – التي استحوذت سابقاً على شركتي Spectrum وPGS – قد باشرت فعلياً الاستعدادات لتنفيذ المسح الزلزالي في البلوك ذاته قبل أن تُستبعد فجأة من المياه اللبنانية، في خطوة وُصفت بأنها “طرد” للشركة، رغم أنها نفذت معظم المسوحات السابقة في المنطقة الاقتصادية اللبنانية.


احتكار “توتال” وهيمنة متجدّدة
يخشى خبراء أن يؤدي هذا التعديل إلى إعادة تكريس احتكار “توتال” لعمليات التنقيب في المياه اللبنانية، بعد سيطرتها على البلوك 9.
فالبلوك رقم 8 يقع في منطقة يُرجَّح أن تكون من أكثر الرقع الواعدة جيولوجياً، إلى جانب البلوك 5 المجاور. وكان من شأن استمرار TGS في المسح الزلزالي أن يُشجّع شركات أخرى على التقدم بعروض منافسة، مما يعزّز موقع لبنان التفاوضي ويكسر الاحتكار.

إلا أن قبول العرض الحالي، بشروطه الممدّدة والمخفّفة، قد يعني تأخيراً متعمداً في عملية الاستكشاف، وتقليصاً تدريجياً لقدرة لبنان على الاستفادة من ثرواته البحرية، خصوصاً في ظل التحول العالمي المتسارع نحو الطاقة المتجددة وانخفاض الجدوى الاقتصادية المتوقعة للغاز في المستقبل المتوسط.


غياب بند تحسين حصة الدولة
من النقاط التي أثارت تساؤلات إضافية، اختفاء بند المفاوضات على حصة الدولة في حال وجود اكتشافات تجارية كبيرة، وهو البند الذي أُدرج سابقاً في قرارات مجلس الوزراء السابقة، وأتاح للحكومة تعديل النسب إذا تبين لاحقاً أن الاكتشاف أكبر من التقديرات الأولية.

التعديل الجديد ألغى هذا الحق، ما يقلل قدرة لبنان على إعادة التفاوض أو تحسين شروطه لاحقاً، ويُضعف موقعه أمام الشركات الأجنبية في حال اكتشاف كميات كبيرة من الغاز.


قراءة في الأبعاد الاقتصادية والسياسية
يرى مراقبون أن مسار الملف النفطي اللبناني يعاني منذ سنوات من تراكمات التأخير والغموض السياسي، إذ لم تُستكمل دورة التراخيص الثانية إلا بعد سنوات من الإعلان عنها، كما تأخرت شركة “توتال” أكثر من 18 شهراً في تقديم تقريرها عن نتائج الحفر في البلوك 9 من دون مبررات مقنعة.

هذا الواقع يجعل من الاقتراح الحالي خطوة إلى الوراء في إدارة الملف الطاقوي، إذ بدلاً من تسريع الاستكشاف وفتح المنافسة، يُعاد تأجيل المسح وتخفيف الشروط، ما يثير الشكوك حول أولويات الدولة وموقع المصلحة الوطنية في عملية التفاوض.

من جهة أخرى، يحذّر مختصون من أن التأخير في التنقيب يصب في مصلحة العدو الإسرائيلي، الذي يواصل تطوير حقوله البحرية في المناطق المتاخمة للبلوك 8 في شمال البحر الفلسطيني المحتلّ، ما يمنحه أسبقية استثمارية وجيولوجية يصعب على لبنان تعويضها لاحقاً.


الحاجة إلى رؤية واضحة
في ظل هذه المعطيات، تبرز الحاجة إلى رؤية وطنية متماسكة لإدارة الثروة الغازية، تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، وتضمن التوازن بين جذب الاستثمارات وحماية حقوق الدولة.
فالمسح الزلزالي السريع كان ليمنح لبنان بيانات حديثة تعزز موقعه في أي مفاوضات لاحقة، كما كان سيساهم في استعادة الثقة بقطاع البترول الذي يعيش حالة ركود مزمنة.

لكنّ الاتجاه الحالي يوحي بأنّ الملف يسير في مسار بطيء ومبهم، في وقت لم يعد التأخير فيه ترفاً، خصوصاً مع تقلّب أسعار الطاقة عالمياً وتزايد المنافسة الإقليمية.
ويبقى السؤال الأهم: هل يملك لبنان ترف الانتظار خمس سنوات إضافية قبل أن يحفر بئره الأولى في الرقعة 8، أم أن ما يجري هو تأجيل آخر في رحلة البحث عن الغاز... وربما عن القرار؟

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 8