تعيش الولايات المتحدة حالة غير مسبوقة من التوتر السياسي والاجتماعي، مع اتساع رقعة الاحتجاجات المناهضة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وارتفاع الأصوات المطالبة بوقف ما يوصف بـ"تغوّل السلطة التنفيذية" على الحريات المدنية. الحراك الجديد، الذي يتجسد في مظاهرات ضخمة اليوم السبت تحت شعار "لا ملوك" (No Kings)، يعيد إلى السطح جدلاً عميقاً حول مستقبل الديمقراطية الأميركية ومدى صمودها أمام نزعات التفرد بالسلطة.
احتقان سياسي وشلل حكومي
تأتي هذه التعبئة الوطنية الواسعة في سياق إغلاق حكومي متواصل منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول، بعد فشل الكونغرس في تمرير الموازنات الفدرالية. أكثر من 700 ألف موظف حكومي أُجبروا على إجازات قسرية، فيما يعمل مئات الآلاف دون أجر في قطاعات حيوية.
ويرى مراقبون أن إدارة ترامب تستخدم هذا الإغلاق كورقة ضغط سياسية، ما عمّق الاستياء الشعبي وأشعل موجة احتجاجات جديدة تحمل نبرة أكثر تحدياً.
هذا الشلل، الذي أصاب أجهزة الدولة بالجمود، يُنظر إليه كمؤشر على تآكل قدرة المؤسسات الأميركية على العمل التوافقي، في ظل استقطاب حزبي حاد يتجاوز الخلافات التقليدية بين الجمهوريين والديمقراطيين إلى أزمة بنيوية تهدد العقد الاجتماعي نفسه.
“لا ملوك”.. حركة ترفض التفرد وتطالب بالمساءلة
انطلقت حركة “لا ملوك” في يونيو/حزيران الماضي رداً على ما يصفه منظموها بـ"المنحى السلطوي" الذي تتبناه إدارة ترامب. شعارها — المستلهم من التاريخ التأسيسي الأميركي — يرمز إلى رفض الحكم المطلق والتأكيد على أن "السلطة للشعب لا للحاكم".
وتطالب الحركة بوقف عسكرة المدن الأميركية وإنهاء انتشار القوات الفدرالية في الشوارع، إضافة إلى كبح المداهمات الواسعة بحق المهاجرين ووقف ممارسات الترحيل القسري.
وتقول إيمان عوض، المديرة الوطنية للسياسات في مؤسسة "إيمغيج" المعنية بالمشاركة السياسية للمسلمين، إن شعار “لا ملوك” "يذكّر الأميركيين بسبب قيام دولتهم أصلاً، أي رفض الحكم المطلق، وهو اليوم نداءٌ من أجل مساءلة القادة وحماية المساواة أمام القانون".
تعبئة وطنية غير مسبوقة
وفق تقديرات الحراك والمنظمات المشاركة، من المتوقع تنظيم نحو ألفي فعالية في أكثر من 1700 مدينة أميركية، مع توقعات بعض الجهات المحلية ببلوغها 2500 فعالية.
وتقود حركة "50 ولاية.. احتجاج واحد" (50501) التنسيق الوطني لهذه المسيرات، مدعومة من منظمات مدنية كبرى مثل “إنديفيزيبل” و**“بابليك سيتزن”** والاتحاد الأميركي للحريات المدنية.
كما أعلنت نقابات كبرى — منها اتحاد المعلمين الأميركيين واتحاد عمال الاتصالات — مشاركتها في الحراك، معتبرة أن القضايا لم تعد سياسية فحسب بل “مسألة كرامة إنسانية” كما قال أحد المشاركين.
الاتهامات الجمهورية: "مسيرة كراهية لأميركا"
في المقابل، شنّ مسؤولون جمهوريون بارزون هجوماً على الحراك، متهمين القائمين عليه بتأجيج الانقسام وبـ"تشويه الوطنية".
ووصف رئيس مجلس النواب مايك جونسون التظاهرات بأنها “احتجاج كراهية”، بينما ربطها النائب توم إمر بما سماه “تيارات يسارية راديكالية”.
أما السيناتور تيد كروز فذهب أبعد من ذلك، متهماً الممول جورج سوروس بدعم الحركة “بغرض زعزعة النظام الأميركي”، وهو اتهام كرره الرئيس ترامب نفسه، الذي وصف سوروس بأنه "الممول الرئيسي للتطرف في الولايات المتحدة".
اهتزاز الثقة في الديمقراطية الأميركية
تبدو هذه المواجهة المتصاعدة أكثر من مجرد احتجاجات عابرة؛ إنها تعكس تحولاً هيكلياً في المزاج السياسي الأميركي، حيث تتزايد الشكوك في حياد المؤسسات واستقلال القضاء وحرية الإعلام.
ويرى محللون أن الولايات المتحدة تدخل مرحلة “ما بعد النموذج الديمقراطي التقليدي”، حيث يتنافس خطاب الشعبوية اليمينية مع حركات المجتمع المدني على تعريف "الوطنية" نفسها.
في المقابل، يحذر خبراء من أن استمرار الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الإغلاق الحكومي، مع تصاعد الاحتجاجات، قد يضع البلاد على حافة أزمة دستورية إذا استمرت المواجهة بين السلطة التنفيذية والمؤسسات المدنية.
بين شلل حكومي يطول، واحتجاجات ترفع شعار "لا ملوك"، ومجتمع يزداد انقساماً حول معنى الديمقراطية، تقف الولايات المتحدة أمام مفترق طرق حاسم.
فإما أن تنجح في استعادة توازنها المؤسسي وتجديد ثقة الشارع في نظامها، أو أن تدخل طوراً جديداً من الاضطراب السياسي يعيد صياغة معادلة السلطة في أكبر ديمقراطية بالعالم.