للمرة الأولى منذ أشهر، رفعت الدولة اللبنانية لهجتها الرسمية في مواجهة التصعيد الإسرائيلي، بعدما استهدفت غارة فجر السبت الماضي منشآت صناعية ومعارض لبيع آليات ثقيلة في منطقة المصيلح جنوب البلاد، ما أسفر عن تدمير معدات كانت مخصصة لإعادة إعمار قرى الجنوب المتضررة.
الهجوم الذي وُصف لبنانياً بأنه "الأعنف منذ أسابيع"، أعاد النقاش حول اتفاق وقف إطلاق النار وحدود الالتزام به، وأيقظ السجال السياسي حول دور الدولة في حماية الجنوب وإعادة إعمار مناطقه.
موقف رسمي موحّد نادر
أحدثت الغارة ردود فعل متلاحقة داخل الأوساط الرسمية، حيث دان رئيس الجمهورية جوزيف عون الاعتداء، معتبراً أنه يحمل "رسائل تتجاوز البعد العسكري"، مشيراً إلى أن "هناك من يفكر بالتعويض عن غزة في لبنان لضمان استمرار الاستفادة السياسية من النار والقتل"، في إشارة إلى ما وصفه بمحاولات زجّ لبنان في حسابات الصراع الإقليمي.
من جانبها، أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية بياناً حذرت فيه من أن "الاعتداء الإسرائيلي الأخير يعرقل الجهود الوطنية المبذولة لحصر السلاح بيد الدولة وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة".
في السياق ذاته، زار وزير الأشغال العامة فايز رسامني موقع القصف للاطلاع على حجم الأضرار، كما حضرت النائبة غادة أيوب من كتلة "القوات اللبنانية" لمواكبة التحقيقات الميدانية.
ولم تكتف الحكومة بالمواقف الإعلامية، إذ طلب رئيس مجلس الوزراء نواف سلام من وزارة الخارجية إعداد شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي، احتجاجاً على ما وصفه بـ"الاعتداء الواضح على الممتلكات المدنية والبنى التحتية".
مشروع إعمار معلّق
تشير المعلومات إلى أن المنشآت المستهدفة كانت تضم آليات ومعدات حفر وجرافات مخصصة للعمل في 38 بلدة جنوبية ضمن خطة تأهيل للبنى التحتية، كانت الدولة اللبنانية تنوي تنفيذها بتمويل من قروض سابقة تبلغ قيمتها نحو 100 مليون دولار.
ويقول مسؤولون إن تدمير هذه المعدات يعرقل انطلاق مشروع الإعمار، معتبرين أن ما حدث "رسالة واضحة بأن إعادة الإعمار في الجنوب لن تُسمح قبل توافر توافق سياسي أوسع".
قراءة سياسية للتصعيد
ربطت أوساط سياسية لبنانية التصعيد الأخير بمواقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي انتقد مؤخراً ما اعتبره "إهمالاً رسمياً لمناطق الجنوب"، معتبرة أن الغارة جاءت بمثابة اختبار لمدى تجاوب الحكومة مع المطالب الشعبية والإنمائية هناك.
وتذهب بعض التحليلات إلى أن الرسالة الإسرائيلية تتجاوز البعد العسكري، إذ تهدف – وفق هذه الأوساط – إلى الضغط على الدولة اللبنانية للانخراط في مسار تفاوضي جديد حول الحدود والعلاقات المستقبلية، على غرار ما يُطرح في المنطقة بشأن "عملية السلام الإقليمي".
وتشير معلومات متقاطعة إلى أن مسؤولين دوليين نقلوا مؤخراً إلى بيروت موقفاً إسرائيلياً مفاده أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو "يضع على طاولته اتفاق 17 أيار كنقطة انطلاق لأي مفاوضات جديدة"، في إشارة إلى الاتفاق الأمني الموقع عام 1983 بين البلدين ولم يُنفّذ حينها.
وبحسب هذه الرؤية، فإن إسرائيل ترغب في فتح قنوات مباشرة مع لبنان، أسوةً بما يجري مع دمشق، التي يقال إنها "قريبة من توقيع اتفاق أمني" وفق بعض التصريحات الإسرائيلية الأخيرة.
ردّ لبناني متماسك
في المقابل، تؤكد أوساط حكومية لبنانية أن أي حديث عن مفاوضات تطبيع غير مطروح حالياً، وأن الدولة "متمسكة بثوابتها الوطنية وقراراتها المستقلة"، مشيرة إلى أن الاستهداف الأخير لن يغيّر من الموقف الرسمي الداعي إلى الالتزام بالقرار 1701 واحترام السيادة اللبنانية.
كما شددت على أن الحكومة "لن تقبل بأن تكون مشاريع الإعمار رهينة لأي شروط أو ضغوط سياسية خارجية".
وفي وقتٍ تتواصل المساعي لإصلاح الأضرار التي خلّفها القصف في المصيلح، يرى مراقبون أن الحدث أعاد الجنوب إلى واجهة النقاش الداخلي، ووضع الدولة أمام اختبار حقيقي بين حماية سيادتها وإدارة التوازنات الإقليمية الدقيقة.