في وقت يعيش فيه الاقتصاد اللبناني واحدة من أعقد مراحله منذ الأزمة المالية عام 2019، تسجل سندات الدولة في الأسواق العالمية ارتفاعاً غير مسبوق منذ إعلان التخلف عن السداد قبل خمس سنوات.
المفارقة، وفق تقرير حديث صادر عن بنك "غولدمان ساكس"، أن هذا الصعود يأتي في غياب أي خطوات عملية لإعادة الهيكلة، ما يعكس مزيجاً من المضاربات المالية وتوقعات بتحرك سياسي أو مالي قريب.
أداء غير معتاد في الأسواق الثانوية:
سندات اليوروبوندز اللبنانية ارتفعت إلى نحو 24 سنتاً على الدولار، وهو المستوى الأعلى منذ عام 2020، لتقترب من القيمة التقديرية العادلة التي يحددها البنك عند 25 سنتاً.
ويرى التقرير أن هذه المستويات تشير إلى أن المستثمرين بدأوا بتسعير احتمالات محدودة للتعافي، مع انتظار أي إشارات من الحكومة اللبنانية حول خطة إعادة الهيكلة المؤجلة منذ أكثر من ثلاث سنوات.
السيناريو المرجح: تخفيض الديون 70% في 2027
في السيناريو الأساسي الذي اعتمده "غولدمان ساكس"، يُتوقع أن تتجه الحكومة إلى خفض الديون بنسبة 70% مع تنفيذ خطة إعادة الهيكلة في الربع الأخير من 2027.
وتُقدر المؤسسة أن يؤدي ذلك إلى تراجع الدين العام من 128.3% من الناتج المحلي في 2026 إلى 60.2% في 2027، ما يعني تحسناً تدريجياً في المؤشرات المالية.
كما يُفترض أن ينخفض سعر الصرف الرسمي لليرة بنسبة 45% ليبلغ 135 ألف ليرة للدولار بنهاية 2027، لتصل قيمة الاسترداد إلى نحو 28 سنتاً.
التفاؤل المشروط: تحسّن تدريجي مع إصلاحات محدودة
في حال تحققت ظروف أكثر استقراراً، يرى البنك سيناريو تفاؤلياً يقوم على خفض 60% فقط من الديون وتنفيذ إعادة الهيكلة قبل عام 2027.
ويتوقع هذا المسار أن يتراجع الدين إلى 72% من الناتج المحلي بحلول 2026، مع تسجيل نمو اقتصادي يتجاوز 15% بين 2028 و2029.
لكن التقرير يشدد على أن هذا الاحتمال مرتبط بقدرة الدولة على تمرير إصلاحات مالية ومصرفية حقيقية، خصوصاً في القطاعات العامة والمصرفية التي لا تزال تعاني من ضعف هيكلي.
السيناريو المتشائم: اقتطاع كبير وتأجيل الحل
في المقابل، يتناول التقرير سيناريو أكثر حذراً، يُفترض فيه اقتطاع 80% من الديون وتأجيل عملية إعادة الهيكلة إلى نهاية عام 2028.
هذا السيناريو يعني بقاء الاقتصاد في حالة ركود ممتد، مع ارتفاع سعر الصرف إلى أكثر من 155 ألف ليرة للدولار بحلول 2030، وتراجع الثقة بالقطاع المالي والمصرفي.
كما يُقدّر أن تنخفض قيمة الاسترداد إلى 17 سنتاً فقط، ما يجعل هذه الحالة أقرب إلى "جمود مالي طويل الأمد" من كونها إعادة توازن اقتصادية.
خطر غياب الإصلاحات: الدين قد يتجاوز 150%
أما السيناريو الأسوأ، فيتمثل بعدم تنفيذ أي إعادة هيكلة أو إصلاحات، وهو ما قد يؤدي إلى قفز نسبة الدين العام إلى أكثر من 158% من الناتج المحلي في 2028.
ويحذر "غولدمان ساكس" من أن استمرار الجمود السياسي والإداري قد يفقد الدولة قدرتها على الوصول إلى أي تمويل خارجي، ويؤدي إلى مزيد من التدهور في قيمة العملة المحلية والقدرة الشرائية.
التعافي مرهون بالثقة السياسية:
يخلص التقرير إلى أن الارتفاع الأخير في سندات لبنان يعكس رهانات أكثر من كونه تحسناً اقتصادياً فعلياً.
فالمستثمرون، بحسب البنك، يراهنون على تسوية سياسية واقتصادية شاملة، وليس على تحسّن في أساسيات الاقتصاد.
ويشير إلى أن لبنان ما زال أمام طريق طويل لاستعادة ثقة الأسواق، تبدأ من تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ خطة إصلاح مالي ومصرفي، وتنتهي بإعادة هيكلة واقعية للديون تضمن استدامة مالية على المدى الطويل.