في زيارة وُصفت بأنها «تاريخية» و«كسر جليد» بين العاصمتين، وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت أمس، في أول زيارة لمسؤول سوري رفيع منذ سقوط نظام بشار الأسد، حاملاً معه رسائل سياسية واضحة تؤشر إلى مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية – السورية بعد سنوات من القطيعة والتوتر.
الزيارة، التي جاءت بدعوة رسمية من الجانب اللبناني، حملت شعارًا غير معلن لكنه متداول في الأوساط السياسية: «طيّ صفحة الماضي، وصناعة مستقبل جديد قائم على الندية والاحترام المتبادل».
رسائل الشيباني: احترام السيادة وإنهاء التدخلات
في مؤتمر صحافي مقتضب أعقب لقاءه مع الرئيس اللبناني جوزيف عون في قصر بعبدا، أكد الشيباني أن السلطات السورية الجديدة تحترم سيادة لبنان واستقلال قراره السياسي، مشددًا على أن دمشق «لا تريد العودة إلى سياسات الوصاية أو التدخل التي ميّزت مرحلة ما قبل الحرب السورية».
وأضاف الوزير السوري: «نريد أن نفتح صفحة جديدة مع لبنان، نتجاوز فيها عقبات الماضي، ونبني على المصالح المشتركة بين الشعبين الشقيقين».
كلمات الشيباني، وإن بدت دبلوماسية، اعتُبرت في بيروت إشارة إلى تحوّل جذري في نهج السياسة الخارجية السورية، خصوصًا بعد التغييرات الداخلية في دمشق التي أطاحت بمرتكزات النظام السابق.
عون: نحو علاقات متوازنة قائمة على المؤسسات
من جهته، شدد الرئيس اللبناني جوزيف عون على أهمية هذه الزيارة في «إعادة بناء الثقة السياسية» بين البلدين، مؤكدًا أن لبنان يريد علاقات متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل ومبدأ المعاملة بالمثل.
وطلب عون من الوزير السوري تعيين سفير جديد لدمشق في بيروت، تمهيدًا لإعادة العمل بالقنوات الدبلوماسية الرسمية بعد تعليق أعمال المجلس الأعلى اللبناني – السوري لسنوات طويلة.
كما أشار إلى ضرورة تفعيل التعاون في ملفات الاقتصاد والطاقة والحدود واللاجئين السوريين، في إطار رؤية جديدة «تضع مصلحة الشعبين فوق كل اعتبار سياسي».
ملفات مطروحة على الطاولة: الاقتصاد والأمن واللاجئون
مصادر لبنانية كشفت لـ«وكالة أنباء آسيا» أن المباحثات شملت ملفات أمنية واقتصادية وقضائية حساسة، أبرزها:
تنسيق أمني جديد بين الجيشين لضبط الحدود المشتركة ومنع تهريب السلاح والمخدرات.
اتفاق مبدئي حول إعادة اللاجئين السوريين تدريجياً، وفق خطة إنسانية تشرف عليها الأمم المتحدة.
مشروعات اقتصادية مشتركة، تشمل فتح معابر تجارية جديدة، واستئناف النقل البري بين بيروت ودمشق، وربط شبكة الكهرباء والغاز.
تبادل المطلوبين قضائياً، وتفعيل مذكرات التعاون القضائي المجمدة منذ عام 2012.
وأشارت المصادر إلى أن الشيباني نقل رغبة دمشق في استعادة دورها الطبيعي في المنطقة عبر الانفتاح على جيرانها، فيما أبدى الجانب اللبناني «حذرًا إيجابيًا» بانتظار ترجمة الوعود إلى خطوات عملية.
مغزى التوقيت: دمشق تعود من بوابة بيروت
يأتي توقيت الزيارة بعد أسابيع من إعلان الحكومة السورية الانتقالية تشكيلها الجديدة، في وقت تسعى فيه دمشق إلى إعادة تموضعها الإقليمي والدبلوماسي بعد سنوات من العزلة.
وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن اختيار بيروت كمحطة أولى للوزير الشيباني «ليس عفويًا»، إذ تسعى سوريا إلى ترميم علاقاتها مع محيطها المباشر قبل الانفتاح الأوسع على العالم العربي.
ويرى مراقبون أن الزيارة تحمل رمزية خاصة، إذ تعيد التذكير بالعلاقات التاريخية المعقدة بين البلدين، لكنها تضع أيضًا أسسًا جديدة لتعاون أكثر واقعية وأقل هيمنة.
ردود الفعل اللبنانية: بين الترحيب والريبة
في الداخل اللبناني، تباينت المواقف السياسية إزاء الزيارة.
فقد رحّب التيار الوطني الحر وحزب الله بالخطوة واعتبراها «إعادة وصلٍ ضروري بعد مرحلة القطيعة»، بينما أبدت قوى أخرى مثل القوات اللبنانية والكتائب تحفظها، مطالبةً بـ«ضمانات واضحة من دمشق» بعدم التدخل في الشأن الداخلي اللبناني.
أما الشارع اللبناني، الذي يعيش أزماته الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، فقد نظر إلى الزيارة من زاوية الفرص المحتملة لتخفيف الضغوط الاقتصادية عبر التعاون مع سوريا في مجالات التجارة والطاقة والنقل.
بداية صفحة جديدة أم اختبار نوايا؟
تُعد زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت منعطفًا دبلوماسيًا في العلاقات اللبنانية – السورية، تحمل في طياتها مزيجًا من الرمزية السياسية والرهانات الواقعية.
فبينما تتحدث دمشق عن «طي الماضي»، يرى مراقبون أن المستقبل لا يزال رهين اختبار النوايا والالتزامات، في ظل ملفات شائكة تراكمت خلال عقدين من التباعد والتجاذب.
لكن ما يبدو واضحًا حتى الآن هو أن بيروت ودمشق عادتا إلى طاولة الحوار، وأن «كسر الجليد» الذي تحقق بالأمس قد يفتح بابًا لمعادلة إقليمية جديدة، يكون فيها التعاون بديلًا عن القطيعة، والمصالح المشتركة بوصلة المرحلة المقبلة.