رهان خطير هل يبيع لبنان ذهبه لإنقاذ نظامه المصرفي؟

2025.10.06 - 05:01
Facebook Share
طباعة

منذ انهيار 2019، يعيش لبنان واحدة من أعمق الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث. تبخرت مدخرات المواطنين، وتراجعت الثقة في المصارف، وتحولت الدولة إلى رهينة ديونها وعجزها المالي، ومع تشكل الحكومة الجديدة، عاد ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي إلى الواجهة، باعتباره الأداة الوحيدة تقريبًا لإنقاذ ما تبقى من النظام المالي المنهار.

ورغم أن اللبنانيين كانوا يأملون في أن تشكل هذه المفاوضات بوابة لمحاسبة المسؤولين واسترداد أموال المودعين، إلا أن المسار الحالي لا يوحي بذلك. فبدلاً من التركيز على المساءلة، تتجه مقترحات الصندوق نحو خفض الدين العام بأي وسيلة ممكنة، حتى لو كان الثمن تصفية أصول الدولة أو تحميل المودعين الخسائر. ووفق تحليل منتدى فكرة، فإن هذا النهج لا يخدم الاستقرار المالي بقدر ما يهدف إلى تقليل المخاطر على الصندوق نفسه، دون النظر إلى أثره الاجتماعي والسياسي.

احتياطي الذهب في دائرة الجدل:

عاد الحديث مجددًا عن احتياطيات الذهب لدى مصرف لبنان، التي تُقدر قيمتها اليوم بنحو 33 مليار دولار. هذه الاحتياطيات أصبحت الهدف الأول في مفاوضات صندوق النقد الدولي، خاصة بعد ارتفاع أسعار الذهب عالميًا، ما جعلها الأصل الأكثر أمانًا في ميزانية المصرف المركزي.

لكن اقتراح بيع جزء منها لتغطية الدين العام الذي يتجاوز 80 مليار دولار، أثار موجة رفض واسعة. فالقانون اللبناني يمنع المساس بهذه الاحتياطيات إلا بقرار من البرلمان، كما أن ملكيتها تعود للمصرف والمودعين لا للدولة.

وتفيد المعلومات بأن الصندوق اقترح أن تمتنع الحكومة عن سداد ديونها للمصرف المركزي، البالغة 16.5 مليار دولار، وهي أموال خُصصت لتعويض المودعين، النتيجة المتوقعة من هذا المقترح ستكون تقويض الثقة بما تبقى من النظام المصرفي، وحرمان آلاف اللبنانيين من استعادة أموالهم.

تداعيات محتملة على المصارف والمودعين:

القطاع المصرفي هو العمود الفقري لأي اقتصاد، وفي لبنان تحديدًا يعتمد بشكل كبير على ودائع المغتربين والمواطنين في الداخل. أي خلل في هذا التوازن يهدد بانهيار شامل، فالمصارف تمول الدولة عبر شراء السندات وتغطية عجزها، وفي المقابل تعتمد على ثقة المودعين واستمرار تدفق أموالهم.

إذا تم تطبيق مقترحات صندوق النقد، فستفقد المصارف قدرتها على الإقراض، وستتراجع السيولة، مما يفتح الباب لانكماش اقتصادي طويل الأمد. إضافة إلى ذلك، سيؤدي تجميد عمل البنوك وغياب الثقة إلى انتشار التعاملات النقدية المباشرة، التي باتت بالفعل تهيمن على السوق اللبنانية، هذا الواقع يمنح القوى المهيمنة على الاقتصاد النقدي نفوذًا أكبر، خاصة المجموعات السياسية التي تدير شبكات مالية موازية، ما يعمق الفساد ويزيد من صعوبة ضبط حركة الأموال والضرائب.

خيارات بديلة أمام الحكومة اللبنانية:

رغم صعوبة الموقف، لا تزال أمام لبنان مسارات بديلة يمكن أن تتيح حلولًا أكثر استدامة. يمكن للحكومة أن تتجه إلى خصخصة قطاعات حيوية مثل الاتصالات والنقل، ما قد يجذب استثمارات خارجية ويقلل العبء عن الموازنة العامة، كما يمكن تحسين تحصيل الضرائب عبر أنظمة رقمية تقلل التهرب والتسرب المالي، وتحد من الفساد الإداري.

من جهة أخرى، يمكن لمصرف لبنان استغلال احتياطياته بطرق مبتكرة دون بيعها فعليًا. أحد المقترحات هو رقمنة جزء من الذهب أو تحويله إلى عملة مستقرة (Stablecoin) تدر دخلًا دون المساس بالملكية. مثل هذا الخيار قد يوفر سيولة فورية تُستخدم لتسديد التزامات المودعين وإعادة الثقة تدريجيًا.

التوازن بين الإصلاح والمحاسبة:

أي حل واقعي للأزمة يجب أن يبدأ من مبدأ العدالة في توزيع الخسائر. فالمودعون، الذين فقدوا أموالهم نتيجة سوء الإدارة الحكومية والمصرفية، لا يمكن أن يتحملوا وحدهم تبعات الانهيار. المطلوب هو اتفاق إصلاحي شامل يربط بين إعادة هيكلة الدين والمحاسبة القضائية للمسؤولين الذين تسببوا بالأزمة، سواء من الطبقة السياسية أو من داخل القطاع المالي.

من دون هذا التوازن، ستظل خطط الإنقاذ مجرد مسكنات مؤقتة. فإعفاء الدولة من التزاماتها المالية، كما يقترح الصندوق، يفتح الباب أمام انهيار ما تبقى من مؤسساتها، ويقوض أي إمكانية لإعادة بناء الثقة في النظام المالي.


خطر الإصرار على النهج الحالي:

حتى الآن، يبدو أن مصرف لبنان يحاول التمسك بضبط النفس، والتفاوض بحذر مع الحكومة والصندوق لتفادي الانهيار الكامل. لكن استمرار الضغط الدولي نحو بيع الذهب أو إلغاء ديون الدولة قد يضع المصرف أمام مأزق قانوني وأخلاقي.

إذا تم فرض هذا المسار، فإن الخسارة لن تقتصر على المودعين، بل ستشمل النظام المالي بأكمله، مع احتمالات لعودة الاحتجاجات الشعبية واتساع الفجوة بين المواطنين والحكومة كما سيترسخ الاقتصاد الموازي، وتتراجع فرص الإصلاح الحقيقي لسنوات قادمة.
لبنان يقف اليوم عند مفترق حاسم: إما أن يتبنى إصلاحًا مسؤولًا يعيد الثقة بالنظام المالي، أو أن يواصل الخضوع لشروط خارجية تجعل المودعين يدفعون ثمن فساد الدولة. إن الحلول السهلة التي يقدمها صندوق النقد الدولي قد تبدو مغرية على الورق، لكنها عملياً تزرع بذور انهيار جديد أشد قسوة، في بلد لم يخرج بعد من رماد أزمته الأولى. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 5