في موقف يعكس تصاعد التوتر الدبلوماسي بين حركة طالبان والولايات المتحدة، أعلن المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد، أن الإمارة الإسلامية لن تسمح مطلقاً بعودة الأمريكيين إلى قاعدة باغرام الجوية، التي كانت لعقدين من الزمن أكبر معقل عسكري للولايات المتحدة في آسيا الوسطى.
جاءت تصريحات مجاهد في مقابلة حصرية مع شبكة "سكاي نيوز" البريطانية، ردًّا على دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاستعادة السيطرة على القاعدة الاستراتيجية شمال العاصمة كابل، وهو ما اعتبرته طالبان محاولة لإحياء الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان تحت غطاء جديد.
قاعدة باغرام... رمز الاحتلال الأمريكي ومسرح انسحاب الفوضى
تُعدّ قاعدة باغرام الجوية، التي تقع على بعد نحو 60 كيلومترًا شمالي كابل، رمزًا مركزيًا للاحتلال الأمريكي لأفغانستان منذ 2001. منها قادت الولايات المتحدة جميع عملياتها الجوية واللوجستية ضد حركة طالبان، كما استخدمتها كمركز احتجاز واستجواب لمئات المعتقلين، ما جعلها أحد أكثر الرموز كراهية لدى الأفغان.
ومنذ انسحاب القوات الأمريكية في أغسطس 2021، تحوّلت القاعدة إلى نقطة سيادة وطنية حساسة في الخطاب الرسمي لطالبان، التي تراها شاهدًا على نهاية الاحتلال وبداية "عصر الاستقلال الثاني" كما تصفه الحركة.
لذلك، جاء تصريح مجاهد صارمًا وحاسمًا:
“لن يسمح الأفغان أبداً بأن تُسلَّم أرضهم لأي طرف تحت أي ظرف من الظروف.”
تصريح يعيد إلى الأذهان روح التحدي التي ميزت خطاب طالبان منذ استعادتها السلطة قبل أربع سنوات، ويؤكد أن الملف العسكري لم يُغلق بعد بين كابل وواشنطن، رغم كل محاولات التهدئة الدبلوماسية.
محاولات أمريكية للعودة عبر "الدبلوماسية الناعمة"
يبدو أن إدارة ترامب – التي عادت إلى الواجهة بعد انتخابات 2024 – تحاول استعادة موطئ قدم رمزي أو استخباراتي في أفغانستان بحجة "مكافحة الإرهاب" ومنع تمدد تنظيم "داعش – خراسان".
لكن طالبان تعتبر أي محاولة من هذا النوع انتهاكًا مباشرًا لسيادتها.
وفي المقابلة نفسها، أكد ذبيح الله مجاهد أن حكومته تجري محادثات مع الولايات المتحدة لإعادة فتح السفارة الأفغانية في واشنطن والسفارة الأمريكية في كابل، مضيفًا أن ذلك لا يعني السماح بأي وجود عسكري أو أمني على الأرض.
وأوضح المتحدث قائلاً:
“نرغب في إعادة العلاقات الدبلوماسية على أسس احترام متبادل، لا على قاعدة السيطرة أو التبعية.”
شرعية طالبان بين الاعترافات العلنية والاتصالات السرّية
وعن الجدل حول شرعية حكم طالبان، قال مجاهد إن الإمارة الإسلامية “لا تعاني من أي مشكلة شرعية”، مضيفًا أن روسيا أعلنت اعترافها علنًا بالحكومة، وأن عدة دول أخرى قدمت اعترافًا ضمنيًا أو غير معلن، في إشارة إلى الصين، وتركيا، وإيران، وحتى بعض دول الخليج التي فتحت قنوات تواصل أمنية واقتصادية غير رسمية.
ويرى مراقبون أن طالبان تسعى تدريجيًا إلى تحويل الاعتراف الواقعي إلى اعتراف قانوني، خصوصًا في ظل الانسحاب الغربي شبه الكامل، وبدء عودة الاستثمارات الآسيوية في مجالات التعدين والطاقة والنقل.
الملف الاجتماعي... عقدة الشرعية الأخلاقية
رغم محاولات طالبان لتقديم نفسها كحكومة مستقرة، ما زال الملف الاجتماعي والحقوقي يهدد صورتها أمام المجتمع الدولي.
فقد اعترف مجاهد بأن الفتيات فوق سن 12 لا يُسمح لهن بالالتحاق بالمدارس، رافضًا تقديم أي وعود قريبة بإعادة فتح المدارس الثانوية.
وقال بالحرف:
“لا أستطيع أن أقدّم أي وعود في هذا الصدد.”
هذا الموقف يضع طالبان في مواجهة مفتوحة مع الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، خصوصًا بعد أن أشار تقرير اليونيسف إلى أن نحو 90% من الأطفال دون سن الخامسة في أفغانستان يعانون من فقر غذائي حاد، وأن سوء التغذية ارتفع بشكل قياسي خلال العامين الماضيين.
وردّ مجاهد على هذه الانتقادات قائلاً إن الأزمة “ليست مسؤولية الحكومة الحالية وحدها”، بل نتيجة عقود من الغزو والتدمير الغربي وتراجع المساعدات الدولية التي كانت تشكل نحو 70% من الاقتصاد الأفغاني قبل 2021.
اقتصاد يتنفس رغم الحصار
من الناحية الاقتصادية، تؤكد طالبان أن البلاد شهدت تحسنًا تدريجيًا في الأمن والاستقرار المالي، وأن هناك مؤشرات تعافٍ بطيء في مجالات الزراعة والتعدين والتجارة مع دول الجوار.
لكن محللين اقتصاديين يرون أن غياب الاعتراف الدولي الكامل واستمرار تجميد الأصول الأفغانية في الخارج يحدّان بشدة من أي نمو حقيقي، كما أن سياسات طالبان الصارمة تجاه المرأة تعرقل تدفق المساعدات والاستثمارات.
بين كابل وواشنطن... عودة الحرب الباردة بصيغة جديدة
تصريحات طالبان الأخيرة بشأن قاعدة باغرام تكشف أن الصراع بين كابل وواشنطن لم يعد عسكريًا فقط، بل رمزيًا وسياديًا بامتياز.
فبينما ترى الولايات المتحدة أن القاعدة تمثل "موقعًا استراتيجيًا لمكافحة الإرهاب في آسيا"، تراها طالبان رمزًا لإذلال انتهى ولن يتكرر.
وفي وقت تحاول فيه واشنطن استعادة نفوذها في المنطقة عبر الدبلوماسية الاقتصادية والاستخباراتية، ترد طالبان برسالة واضحة:
“لن نكون منصة لأي مشروع غربي جديد.”
باغرام... جرح مفتوح في ذاكرة الإمبراطوريات
بعد أكثر من عقدين من الغزو الأمريكي، تظل قاعدة باغرام شاهدًا على سقوط مشروع الهيمنة الغربية في آسيا الوسطى.
اليوم، حين يقول متحدث طالبان إن القاعدة "لن تُسلَّم أبداً"، فهو لا يتحدث عن مدرج طائرات، بل عن رمز وطني للكرامة والسيادة.
ومع تصاعد المواجهة الكلامية بين واشنطن وكابل، يبدو أن أفغانستان تدخل مرحلة جديدة من الحرب الباردة – حرب بلا رصاص، لكن مليئة بالإشارات، والتاريخ، والرسائل المبطّنة بين قوةٍ فقدت السيطرة، وحركةٍ ترى نفسها المنتصرة أخيرًا بعد عشرين عامًا من الاحتلال.