يشكل ملف تجنيس المقاتلين الأجانب وعائلاتهم في سوريا أحد أكثر القضايا حساسية في المرحلة الانتقالية، وسط مطالبات شعبية ودولية متباينة بعد سقوط النظام السابق أواخر العام الماضي. وقد أظهرت التحليلات والورقات البحثية أن هذا الملف يتقاطع مع اعتبارات أمنية وسياسية وإنسانية معقدة، ويحتاج إلى حلول مدروسة توازن بين الحقوق الفردية والمصلحة الوطنية.
خلفية المقاتلين الأجانب
انخرط العديد من المقاتلين الأجانب في صفوف فصائل المعارضة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”، التي لعبت دوراً محورياً في إسقاط النظام السابق، إلى جانب فصائل محلية أخرى. ينحدر هؤلاء المقاتلون من دول متنوعة تشمل مصر والسعودية وباكستان وشيشان وأوروبا وأمريكا، وقد باتت عائلاتهم تعيش في سوريا بعد أن جردتهم بلدانهم الأصلية من الجنسية أو منعتهم من العودة خوفاً من الملاحقة القانونية.
ومع الانتهاء من مرحلة النزاع المسلح، بدأت المطالبات تتزايد لمنح هؤلاء الجنسية السورية، كونهم شاركوا في الجهد القتالي، كما أن الكثيرين منهم يفتقرون إلى وثائق سفر صالحة ويخشون التعرض للسجن أو العقاب إذا عادوا إلى بلدانهم الأصلية.
الموقف الدولي
يحظى ملف المقاتلين الأجانب باهتمام دولي واسع، مع مواقف متفاوتة: فالاتحاد الأمريكي تحول موقفه من الرفض المطلق إلى قبول مشروط، بينما تنظر فرنسا وبريطانيا إلى الملف من زاوية مكافحة الإرهاب وحماية الأمن الداخلي. في المقابل، تعارض الصين أي دمج للمقاتلين، خاصة الإيغور منهم، لأسباب أمنية، فيما تعتبر تركيا أكثر الدول الإقليمية تقبلاً لبقاء المقاتلين الموالين للحكومة الجديدة.
وتشير التجارب الدولية، مثل البوسنة والهرسك، إلى أن ملفات تجنيس المقاتلين الأجانب غالباً ما تكون عرضة للتسييس والتقلبات الدولية، ما يجعل تبني حلول شاملة مباشرة أمراً محفوفاً بالمخاطر.
السيناريوهات المحتملة
تشير التحليلات إلى أربعة سيناريوهات رئيسية للتعامل مع الملف:
التجنيس الشامل الفوري:
يمنح جميع المقاتلين الأجانب وعائلاتهم الجنسية السورية بمرسوم عام، كمكافأة على مشاركتهم القتالية. يواجه هذا السيناريو رفضاً محتملاً من فئات شعبية ترى أن بعض المقاتلين قد يكونون متطرفين أو متورطين في أعمال عنف، كما يمكن أن تعترض عليه بعض القوى الدولية والإقليمية.
عدم التجنيس والترحيل:
يرفض منح الجنسية تماماً، مع السعي لإعادة المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية أو دول ثالثة، مع إيجاد ترتيبات مؤقتة لعائلاتهم. على الرغم من تقليل العبء على الدولة الجديدة، إلا أن تنفيذ هذا السيناريو عملياً صعب ويعرض الملف للاحتجاز المفتوح طويل الأمد.
التجنيس الانتقائي التدريجي:
يعتمد على فرز المقاتلين إلى فئات وتجنيس من تنطبق عليهم المعايير، عبر لجنة وطنية متخصصة، على مراحل زمنية محددة. يرى محللون أن هذا السيناريو يوفر حلاً وسطاً يوازن بين الحقوق الفردية والمخاوف الأمنية، ويتيح استجابة تدريجية للضغط الدولي.
الحلول المؤقتة:
تأجيل البت في الجنسية، ومنح المقاتلين وضع إقامة قانوني مؤقت في سوريا، ما يسمح للدولة بالتحكم في الوضع دون اتخاذ قرار نهائي.
السيناريو الأكثر ترجيحاً
يرجح العديد من المحللين، بما في ذلك الكاتب السياسي أحمد مظهر سعدو، اعتماد السيناريو الثالث، أي التجنيس الانتقائي التدريجي، لأنه يحقق التوازن بين دمج المقاتلين المخلصين للثورة، والضغوط الدولية، مع الحفاظ على استقرار الدولة السورية الجديدة.
ويشير سعدو إلى أن هذا المسار يتيح استمزاج الرأي الدولي لتخفيف التدخل الخارجي، ويعطي فرصة لبحث الملفات بطريقة منظمة، مع مراعاة رأي الشعب السوري عبر طرحه على مجلس الشعب القادم، بدلاً من الاكتفاء بقرارات وزارة الداخلية أو الدفاع.
أهمية التوافق المجتمعي
يشدد الخبراء على ضرورة توافق الرأي الشعبي حول منح الجنسية، مع ضمان معايير عادلة لاستحقاق المقاتلين، لتجنب موجة رفض أو استياء شعبي. كما يعتبرون أن التجنيس الاحترافي والمنظم قد يحول الملف من عبء محتمل إلى فرصة لتعزيز الدولة السورية الجديدة، من خلال استيعاب المقاتلين وعائلاتهم ضمن الإطار القانوني والاجتماعي للدولة.
ويشير الباحثون إلى أن شفافية الإجراءات والبعد الأخلاقي ضروريان لتفادي تكرار أخطاء النظام السابق، الذي سبق أن جنّس مقاتلين أجانب من فصائل شيعية على حساب السكان المحليين.