في خضمّ الجدل المتصاعد حول صفقة التبادل المنتظرة بين فصائل المقاومة والاحتلال، فجّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو موجة جديدة من التوتر السياسي والإعلامي، بعدما تعهّد صراحة بعدم الإفراج عن القيادي الأسير مروان البرغوثي، في أي مرحلة من المفاوضات الجارية.
تصريحات نتنياهو، التي نقلتها القناة العبرية "14"، لم تكن مجرّد موقف تفاوضي، بل تعبير واضح عن الهاجس الأمني والسياسي الذي يثيره اسم البرغوثي داخل المؤسسة الإسرائيلية، لما يمثله من رمز نضالي قادر على إعادة توحيد الشارع الفلسطيني خلف مشروع المقاومة.
فبعد أكثر من عقدين خلف القضبان، لا يزال مروان البرغوثي أحد أبرز الوجوه التي تربك الاحتلال، وتفضح هشاشة روايته عن "القوة التي لا تُقهر"، إذ تحوّل من أسير محكوم بالمؤبد إلى قائد شعبي يثير ذعر تل أبيب من مجرد احتمال الإفراج عنه.
إصرار نتنياهو على إبقائه في السجن يعكس خشية الاحتلال من عودة البرغوثي إلى الساحة السياسية الفلسطينية، وهو ما قد يغيّر موازين القوى في الضفة الغربية ويعيد للقضية الفلسطينية زخمها الثوري المفقود.
الزعيم الأسير الذي تخشاه إسرائيل وتراهن عليه فلسطين
في كل مرة يُذكر فيها اسم مروان البرغوثي، ترتبك حسابات الاحتلال الإسرائيلي، ويعود الحديث عن الرجل الذي تجاوز جدران السجن ليصبح رمزًا وطنيًا يتجاوز الفصائل والانقسامات، وشخصية تحظى بإجماع شعبي نادر في الساحة الفلسطينية.
الولادة والنشأة
ولد مروان البرغوثي في السادس من يونيو عام 1959 في قرية كوبر شمال غرب رام الله بالضفة الغربية. انخرط منذ شبابه المبكر في صفوف حركة "فتح"، وكان من بين أصغر قياداتها الميدانية سناً خلال سنوات الاحتلال الأولى. عُرف بنشاطه الطلابي في جامعة بيرزيت، حيث أسس كتلة "الطلاب الديمقراطيين"، قبل أن يعتقل للمرة الأولى وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره.
المقاوم والسياسي
تدرّج البرغوثي في صفوف حركة "فتح" حتى أصبح أحد أبرز قياداتها في الضفة الغربية، وقاد الحراك الشعبي ضد الاحتلال خلال الانتفاضتين الأولى والثانية. وبالرغم من انتمائه إلى "فتح"، فإن مواقفه كانت أقرب إلى الإجماع الوطني الفلسطيني، إذ دعا مرارًا إلى وحدة النضال بين جميع الفصائل بما فيها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، معتبراً أن المقاومة بجميع أشكالها حق مشروع في وجه الاحتلال.
عرف عنه رفضه القاطع للتنسيق الأمني مع الاحتلال، ودعوته المتكررة لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية تمثل جميع القوى الوطنية.
الاعتقال والمحاكمة
في الخامس عشر من أبريل عام 2002، وخلال اجتياح جيش الاحتلال لمدن الضفة الغربية في عملية "السور الواقي"، اعتقل مروان البرغوثي بعد مطاردة استمرت سنوات.
حوكم في محكمة إسرائيلية بتهم تتعلق "بالإرهاب والتحريض على القتل"، في محاكمة رفض الاعتراف بشرعيتها، قائلاً:
"أنا نائب منتخب من الشعب الفلسطيني، وأنتم سلطة احتلال، لا شرعية لمحكمتكم ولا لأحكامكم."
وفي عام 2004، حكمت عليه محكمة إسرائيلية بالسجن خمسة مؤبدات وأربعين عامًا، بتهم رفضها البرغوثي جملة وتفصيلاً، مؤكداً أن اعتقاله محاولة لإسكات الصوت الذي يوحّد الفلسطينيين خلف خيار المقاومة.
رمزية وطنية عابرة للفصائل
رغم مرور أكثر من عقدين على سجنه، لم يتراجع تأثير مروان البرغوثي في الحياة السياسية الفلسطينية. فقد تحوّل إلى رمز وطني جامع، يحظى بدعم أنصاره من حركة "فتح" ومن مختلف التيارات الوطنية والإسلامية على حد سواء.
يُنظر إليه داخل الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية كأحد أبرز المرشحين القادرين على قيادة مرحلة ما بعد محمود عباس، بفضل ما يتمتع به من شرعية نضالية وشعبية واسعة.
حتى في السجون، قاد البرغوثي عدة إضرابات عن الطعام، أبرزها عام 2017، الذي انضم إليه أكثر من ألفي أسير، في واحدة من أوسع حركات العصيان داخل معتقلات الاحتلال.
الموقف الدولي
أثارت قضية مروان البرغوثي اهتماماً واسعاً في العالم، إذ طالب عشرات النواب الأوروبيين والبرلمانات العالمية بإطلاق سراحه، مؤكدين أن مكانه الطبيعي هو في ميدان السياسة وليس خلف القضبان. كما رشحته شخصيات عالمية لجائزة نوبل للسلام أكثر من مرة، تقديراً لدوره في الدعوة إلى العدالة والحرية لشعبه.
تعهد نتنياهو بعدم الإفراج عنه
وفي تطور جديد، كشفت القناة 14 العبرية أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تعهد بعدم إدراج مروان البرغوثي في أي صفقة تبادل محتملة مع حركة "حماس"، في خطوة تعكس حجم القلق الإسرائيلي من نفوذ الرجل وقدرته على إعادة توحيد الصف الفلسطيني.
ويرى مراقبون أن هذا التعهد ليس مجرد موقف سياسي، بل اعتراف بالخوف من عودة البرغوثي إلى المشهد كقائد قادر على توجيه بوصلة الصراع من جديد نحو مشروع التحرير.
لماذا تخشى إسرائيل اسم مروان البرغوثي؟
تدرك إسرائيل أن الإفراج عن البرغوثي سيكون بمثابة إطلاق شرارة سياسية جديدة داخل الساحة الفلسطينية. فهو القائد الذي يملك شرعية السلاح وشرعية الكلمة، ويمثل الجسر المفقود بين المقاومة والسلطة.
ولذلك، يخشى الاحتلال أن يؤدي خروجه إلى إعادة توحيد الصف الوطني، ورفع منسوب المقاومة في الضفة الغربية.
تعهد نتنياهو بعدم الإفراج عنه ليس تعبيراً عن "قوة موقف"، بل اعتراف ضمني بضعف الاحتلال أمام فكرة تحرر البرغوثي، وبأن رجلًا واحدًا من خلف القضبان لا يزال يهدد أمنهم أكثر مما تفعل جيوش من الخارج.
رمز لا يُهزم
يبقى مروان البرغوثي، رغم جدران الزنازين، حاضرًا في وجدان الفلسطينيين كرمز للكرامة والثبات. لم تكسره القضبان، ولم تُسكت صوته محاكم الاحتلال. ومن زنزانته الضيقة، يواصل إلهام جيل جديد يرى فيه نموذج القائد الذي لم يساوم على الأرض ولا على الحرية.
قد يمنع الاحتلال الإفراج عنه، لكنّه عاجز عن إخفاء حضوره في الضفة وغزة وكل مخيم، حيث تحوّل اسمه إلى مرادف للثبات والمقاومة والحق الذي لا يسقط بالتقادم.
فكلما خشيته إسرائيل أكثر، ازداد في عيون شعبه قامة وشرعية، ليبقى البرغوثي عنوانًا للصمود في وجه الاحتلال وذاكرةً حيّة لقضية لا تموت.