يسجل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فائضاً مالياً ملحوظاً في فروعه الثلاثة — المرض والأمومة، والتعويضات العائلية، ونهاية الخدمة — وفق النتائج المالية الأولية للنصف الأول من عام 2025. فقد بلغت قيمة الفوائض نحو 24,361 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل تقريباً 272 مليون دولار، في وقت لا يزال فيه عدد كبير من المضمونين يواجهون صعوبات حادة في الحصول على الرعاية الصحية والاستشفاء اللازمين.
هذا التناقض بين الأرقام المالية الإيجابية والواقع الاجتماعي الصعب للمضمونين يثير تساؤلات حول إدارة الأموال ومدى انعكاس الفوائض على تحسين الخدمات. فبينما تشير الإدارة إلى حسن الأداء المالي، يرى مراقبون أن هذه الفوائض ليست مؤشراً على تحسّن فعلي في نوعية التقديمات أو فعاليتها.
أسباب الفوائض
يرتبط ارتفاع الفوائض بشكل أساسي بزيادة الإيرادات الناتجة عن رفع الحدّ الأدنى للأجور من 18 إلى 28 مليون ليرة شهرياً، ورفع الحدّ الأقصى للكسب الخاضع للاقتطاعات من 12 إلى 18 مليون ليرة. هذا التعديل أدّى إلى ارتفاع المبالغ التي يسدّدها أصحاب العمل والمضمونون شهرياً.
لكن، وفق مصادر مطلعة، لا يُظهر التقرير المالي أي تطور لافت في مؤشرات التحصيل أو في ضبط المؤسسات المتخلّفة عن التصريح عن أجرائها الحقيقيين، أو في تطبيق المواد القانونية التي تلزم المؤسسات بتقديم بيانات دقيقة. ما يعني أن الفوائض تعود في معظمها إلى عوامل حسابية مرتبطة بزيادة الأجور، وليس إلى تحسّن إداري أو إصلاحي.
فوائض على حساب التغطية الصحية
يبلغ فائض فرع المرض والأمومة — المسؤول عن تغطية نفقات العلاج والاستشفاء — نحو 11,326 مليار ليرة، أي ما يعادل 126.5 مليون دولار، وهو ما يشكل نحو 46.5% من مجمل الفوائض. ومع ذلك، ما زالت نسبة التغطية الفعلية التي يحصل عليها المضمون لا تتجاوز في المتوسط 15% من قيمة الفاتورة الطبية، بحسب تقديرات عدد من المستفيدين.
يشير عدد من المضمونين إلى أنّ المستشفيات والصيدليات والمختبرات لا تلتزم بتعرفة الضمان، ما يضطرهم إلى دفع فروقات كبيرة من جيوبهم الخاصة. أحد المضمونين يروي أنّه اضطر لدفع نحو 1,200 دولار إضافية لتغطية تكاليف أدوية وتخدير لم تشملها فاتورة الضمان.
أما إجمالي نفقات فرع المرض والأمومة خلال عام 2025، فقد بلغ 2,148 مليار ليرة (نحو 24 مليون دولار)، أي ما يمثل 15.6% فقط من وارداته. وتشير الأرقام إلى أن الفائض التراكمي في هذا الفرع وصل إلى نحو 31,160 مليار ليرة، أي 348 مليون دولار، قبل احتساب السلف الممنوحة للمستشفيات. وبعد احتساب السلف، ينخفض الفائض إلى نحو 28,388 مليار ليرة.
هذه الأرقام، وفق خبراء في الشأن المالي والاجتماعي، تعكس خللاً في الأولويات، إذ يتم تراكم الأموال بدلاً من استخدامها في تحسين التغطية الصحية أو إعادة التفاوض مع المستشفيات لتخفيف كلفة الفواتير عن المضمونين.
أصول الضمان: ثروة غير موظّفة بفعالية
يُظهر التقرير المالي أنّ إجمالي أصول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حتى نهاية حزيران 2025 بلغ 131,535 مليار ليرة، أي ما يعادل نحو 1.47 مليار دولار، موزعة بين حسابات جارية ومجمدة في المصارف، وسندات خزينة، وعقارات.
وتشكل الحسابات الجارية بالدولار النسبة الأكبر من الأصول (34.6%)، بقيمة 45,587 مليار ليرة (نحو 509 ملايين دولار)، فيما تبلغ قيمة الحسابات المجمدة بالليرة نحو 5,000 مليار ليرة (حوالي 56 مليون دولار).
أما العقارات التي يمتلكها الصندوق، فتقدّر قيمتها بنحو 7.4 ملايين دولار فقط، أي ما يعادل 0.5% من إجمالي الأصول.
ومن اللافت أن الصندوق لا يزال يحتفظ بسندات خزينة لبنانية بقيمة 4,800 مليار ليرة، تراجعت قيمتها السوقية بشكل حاد منذ الأزمة المالية عام 2019، بعدما كانت تعادل حينها أكثر من 3.2 مليارات دولار.
ارتفاع الأسعار يقلص القيمة الفعلية للفوائض
في موازاة هذه التطورات المالية، يشير تقرير الإحصاء المركزي إلى أنّ الأسعار في لبنان واصلت ارتفاعها حتى مع استقرار سعر الصرف منذ أواخر عام 2023. فقد سجّل مؤشر الأسعار بين تشرين الثاني 2023 وآب 2025 ارتفاعاً بنسبة 52% بالدولار، أي أن التضخم لم يعد مرتبطاً بتقلبات العملة، بل أصبح قائماً على ارتفاع الكلفة الحقيقية للسلع والخدمات.
ووفق التقرير، كانت أعلى الزيادات في قطاع التعليم (800%)، يليه الإيجارات (48%) والغذاء (47%)، فيما ارتفعت تكاليف الصحة بنسبة 24%. هذا الارتفاع في الأسعار بالدولار أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للأجور، رغم رفع الحدّ الأدنى، ما يجعل فائض الضمان في قيمته الفعلية أقل تأثيراً على الواقع المعيشي للمضمونين.
الحاجة إلى إعادة توازن
تطرح هذه المعطيات تساؤلات حول كيفية إدارة أموال الضمان الاجتماعي وتوظيف فوائضه. فبينما تسجل الحسابات فائضاً مالياً قياسياً، تتراجع الخدمات الأساسية، وتتسع الفجوة بين المساهمات التي يدفعها المضمونون والمنافع التي يحصلون عليها.
ويرى مختصون أن المطلوب ليس فقط الحفاظ على التوازن المالي، بل إعادة توجيه الموارد نحو تحسين التغطية الصحية، وتفعيل الرقابة على مقدّمي الخدمات، ووضع سياسات استثمار أكثر شفافية وفعالية تضمن استدامة أموال الضمان وحقوق المضمونين في آنٍ واحد.