مع عودة آلاف السوريين من دول الجوار، تبرز معضلة جديدة تُضاف إلى تحديات ما بعد الحرب، تتمثل في صعوبة إعادة إدماجهم ضمن البنية القانونية والإدارية في البلاد.
فالعائد الذي ترك منزله ووثائقه قبل سنوات، يعود اليوم ليجد نفسه أمام بيروقراطية معقدة وسجلات ناقصة أو مفقودة، ودوائر رسمية مغلقة بسبب الدمار أو ضعف التمويل.
ورغم الإعلان الرسمي عن تسهيلات خاصة بالعائدين، إلا أن الواقع يشير إلى فجوة كبيرة بين النصوص والإجراءات الفعلية، فالمعاملات المتعلقة بتثبيت الزواج والولادة والطلاق والوفاة، إضافة إلى معادلة الشهادات الدراسية أو استصدار وثائق الملكية، تحتاج إلى وقت طويل وتكاليف مالية مرتفعة، ما يجعلها عبئاً إضافياً على العائدين الذين يفتقر معظمهم إلى الاستقرار المادي.
أزمة قانونية واجتماعية:
يعاني العائدون من مشكلة قانونية جوهرية تتمثل في انعدام الوثائق التي تثبت وقائعهم الحياتية أثناء اللجوء. فغياب تسجيل الزواج أو الولادات في السفارات السورية في الخارج يجعل الأطفال في نظر القانون "مجهولي القيد"، كما أن فقدان سندات الملكية العقارية يفتح الباب أمام نزاعات قضائية طويلة لاستعادة الحقوق.
هذه الفجوة القانونية لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد لتؤثر على النسيج الاجتماعي برمته، إذ يصبح من الصعب على الدولة إعادة تنظيم قاعدة بيانات السكان أو ضبط الملكيات بعد سنوات من الفوضى والنزوح.
البنية الإدارية المتضررة:
تعاني مؤسسات الدولة من ضعف في البنية التحتية الإدارية بعد سنوات الحرب، إذ لم تُرمَّم العديد من دوائر النفوس في البلدات المدمَّرة، ما يضطر المواطنين إلى التوجه إلى المحافظات الكبرى لإنجاز أبسط المعاملات، هذا الوضع أدى إلى اكتظاظ المراكز الإدارية وتأخر المعاملات لأشهر، فضلاً عن غياب الموظفين المتخصصين في بعض المناطق.
ويرى مراقبون أن هذه الأزمة تعكس عمق الخلل الإداري والمالي في مؤسسات الدولة، وأن أي عملية لإعادة الإعمار أو إعادة توطين العائدين لن تكون فاعلة ما لم تُستكمل إعادة بناء الجهاز الإداري والقانوني للدولة.
البيروقراطية كأداة ضبط اجتماعي:
تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت البيروقراطية المفرطة مجرّد خلل إداري، أم أنها تتحول في بعض الأحيان إلى وسيلة غير معلنة للرقابة والضبط الاجتماعي. فالتأخير في تثبيت الوقائع أو منح الوثائق الرسمية يجعل المواطنين في حالة "تعليق قانوني"، ما يحدّ من قدرتهم على التنقل، أو التملك، أو حتى السفر مجدداً.
ويرى بعض الباحثين أن هذه البيروقراطية قد تؤدي إلى تهميش فئات واسعة من العائدين، خصوصاً من فقدوا وثائقهم أو لم يتمكنوا من العودة إلى مناطقهم الأصلية بعد تدميرها أو مصادرتها.
أثر اقتصادي طويل المدى:
إلى جانب الأعباء القانونية، تترك أزمة الأوراق الثبوتية أثراً مباشراً على النشاط الاقتصادي، إذ لا يمكن تسجيل عقود البيع أو التوظيف أو تأسيس المشاريع الصغيرة من دون إثباتات رسمية. كما تُعطل هذه التعقيدات عمليات إعادة الإعمار العقاري وإعادة توزيع الملكيات، ما يجعل دورة الاقتصاد المحلي بطيئة ومتعثرة.
بين فقدان الوثائق وتعقيدات البيروقراطية وغياب الدعم المؤسسي، يعيش السوريون العائدون معركة جديدة داخل وطنهم، عنوانها "العودة غير المكتملة". فبينما حملت العودة آمالاً ببدء حياة جديدة، اصطدمت تلك الآمال بجدران من الأوراق والإجراءات التي جعلت من أبسط الحقوق القانونية معركة يومية طويلة.