تتصدر قضية ترسيم الحدود البحرية من جديد واجهة المشهد الليبي، لتتحول من ملف قانوني – فني إلى محور صراع سياسي يعكس الانقسام الداخلي بين شرق البلاد وغربها، ويكشف في الوقت ذاته حجم التنافس الإقليمي في شرق البحر المتوسط على الثروات والغاز والنفوذ البحري.
في الوقت الذي تسعى فيه حكومة طرابلس إلى تثبيت اتفاقها البحري الموقّع مع أنقرة عام 2019، تحاول من جهة أخرى فتح قنوات حوار مع مصر واليونان، داعية إلى التفاوض حول النقاط الخلافية، بينما يلتزم مجلس النواب في الشرق الليبي تريثًا يوصف بالغموض، إذ سبق أن رفض الاتفاقية ذاتها قبل ست سنوات، معتبراً إياها انتهاكاً للسيادة الوطنية.
وأعادت مذكرة الاحتجاج المصرية الأخيرة أمام الأمم المتحدة إحياء الجدل حول مشروعية الاتفاق البحري الليبي – التركي، إذ أكدت القاهرة أنه "باطل قانونيًا" وينتهك حدودها الغربية البحرية. ورغم هذا التصعيد، يرى مراقبون أن طرابلس تميل إلى خيار التهدئة وتجنّب التصعيد السياسي، في محاولة لعدم خسارة دعم القاهرة أو أنقرة في آنٍ واحد، الانقسام الليبي الداخلي حول هذا الملف لا ينفصل عن مشهد النفوذ الإقليمي في المتوسط، فبينما ترى حكومة طرابلس أن التفاهم مع أنقرة يشكل ضمانة سياسية واقتصادية، يعتبر برلمان الشرق الاتفاق "رهان محفوف بالمخاطر"، خصوصاً أنه لم يحظَ بقبول شعبي واسع في المناطق الشرقية.
وبحسب صحيفة «الشرق الأوسط»، فإن ترسيم الحدود البحرية تحوّل إلى "اختبار سياسي" يحدد مدى قدرة الأطراف الليبية على تجاوز الخلافات الداخلية لمواجهة التحديات الإقليمية، خاصة في ظل الانفتاح المحدود بين بنغازي وأنقرة خلال الأشهر الماضية، وزيارة مسؤولين أتراك رفيعي المستوى إلى الشرق الليبي.
وتحاول اليونان من جهتها اللعب على التوازنات القائمة عبر مسارات دبلوماسية مزدوجة مع طرابلس وبنغازي، مستفيدة من ملف الهجرة غير النظامية كورقة ضغط إضافية.
ويرى خبراء القانون الدولي أن الخلافات حول ترسيم الحدود في شرق المتوسط تبقى من أعقد النزاعات البحرية في العالم، بسبب طبيعة البحر شبه المغلقة وتداخل الجروف القارية للدول المتجاورة، ما يجعل أي اتفاق رهناً بالتفاهمات السياسية أكثر من القواعد القانونية.
وفي ظل استمرار تبادل المذكرات والاعتراضات، تبقى السيناريوهات محصورة بين استمرار المناورات الدبلوماسية أو التوجه إلى التحكيم الدولي، بينما يظل التوصل إلى تسوية شاملة بعيد المنال ما لم تتوحّد الرؤية الليبية تجاه البحر الذي بات عنواناً جديداً للصراع والسيادة.