غزة بين وصاية ترامب ومعادلة حماس.. تسوية على الورق وصراع في الميدان

2025.10.04 - 04:56
Facebook Share
طباعة

في لحظة فارقة من تاريخ الصراع على غزة، ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخطته على الطاولة كمن يضع وصفة جاهزة لإنهاء حرب مدمرة دخلت عامها الثالث، ظناً منه أنه يمسك بمفاتيح الحل. غير أن رد حركة حماس جاء كصاعقة سياسية: قبول بما يضمن وقف الدماء وإعمار الركام، ورفض صارم لكل ما يعني إقصاءها أو نزع سلاحها.
بهذا الرد، قلبت الحركة معادلة الخطة رأساً على عقب، لتعلن أن غزة ليست مجرد ورقة تفاوض على مكاتب واشنطن وتل أبيب، بل أرض مقاومة لن تُحكم إلا بإرادة أهلها، وبشرعية من يواجه الاحتلال لا من يتلقى التعليمات.
إنها مواجهة لا تدور فقط حول تبادل أسرى أو فتح معابر، بل معركة أوسع على هوية غزة ومستقبلها السياسي: هل تُدار بوصاية دولية يترأسها ترامب ويشرف عليها الغرب، أم تبقى تحت راية وطنية فلسطينية ترفض الانكسار؟

قبول مبدئي مشروط

أبدت حركة حماس مرونة واضحة في التعامل مع بعض البنود الجوهرية في خطة ترامب، إذ قبلت مبدأ تبادل الأسرى والمحتجزين على نطاق واسع، يشمل الجنود الإسرائيليين مقابل مئات الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم أصحاب المؤبدات والنساء والأطفال. هذا القبول يعكس استعداد الحركة لاستخدام ملف الأسرى كورقة ضغط إنسانية وسياسية في آن واحد.

كما أبدت الحركة موافقة على وقف إطلاق النار وفتح الباب أمام جهود إعادة الإعمار، مؤكدة أن الكارثة الإنسانية في غزة باتت تتطلب تدخلاً عاجلاً يضمن تدفق المساعدات وعودة الحياة إلى حدها الأدنى. لكن القبول لم يكن مطلقاً؛ فقد شددت حماس على رفض أي صيغة تهجير للفلسطينيين، واعتبرت أن التهجير، حتى لو كان اختيارياً، يشكل مساساً بجوهر القضية الفلسطينية. وبذلك وضعت الحركة خطوطاً حمراء حول ثوابت لا يمكن التفاوض عليها، حتى وهي تقبل ببنود أخرى تمس الجانب الإنساني والمعيشي.

تصعيد سياسي واضح

رغم المرونة الجزئية، حمل رد حماس نبرة تحدٍ قوية تجاه البند الأهم في خطة ترامب والمتعلق بـ الإدارة الانتقالية لغزة. فالخطة الأميركية نصت على لجنة من التكنوقراط المستقلين بإشراف دولي مباشر، لكن حماس رأت في ذلك التفافاً على الشرعية الفلسطينية ومحاولة لإقصاء القوى الوطنية من المشهد.
الحركة أكدت أنها لن تقبل إلا بهيئة فلسطينية توافقية، من المستقلين والتكنوقراط، شريطة أن تنبثق عن توافق وطني داخلي وتحظى بغطاء عربي وإسلامي، لا أن تُفرض من الخارج. هذا الموقف يمثل تصعيداً سياسياً واضحاً، إذ يعكس رفض الحركة لأي "وصاية دولية" أو دور مباشر للولايات المتحدة أو حلفائها في صياغة مستقبل غزة.
بهذا المعنى، ردت حماس على خطة ترامب بطرح بديل سياسي موازٍ: غزة تُدار فلسطينياً وبإرادة داخلية، لا بقرار فوقي من العواصم الكبرى.

معركة الشرعية

النقطة الأكثر حساسية تمثلت في استبعاد حماس من مستقبل غزة، وهو ما تنص عليه خطة ترامب بوضوح، حيث طالبت بعدم وجود أي دور سياسي أو إداري للحركة، بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا الطرح جاء متماهياً مع الشروط الإسرائيلية القديمة الجديدة التي تعتبر أن وجود حماس في أي صيغة حكم يشكل تهديداً دائماً.
في المقابل، تجاهلت الحركة هذا الشرط بشكل متعمد في بيانها، لتبعث رسالة مزدوجة: الأولى أنها لن تدخل في سجال حول شرعيتها لأنها ترى نفسها جزءاً أصيلاً من النسيج الفلسطيني، والثانية أنها تعتبر أن مجرد ذكر هذا الشرط يعكس انحيازاً أميركياً لإسرائيل.
بذلك وضعت حماس "سلاح المقاومة" في قلب النقاش، باعتباره أحد عناصر الشرعية الوطنية. فهي ترى أن شرعية من يقاوم ويضحي لا يمكن أن تُلغى بقرار دولي، وأن أي تسوية تحاول تجاوزها ستكون مآلها الفشل.

تناقض جذري

يتضح من المقارنة أن خطة ترامب سعت إلى تفكيك معادلة حماس: أي نزع سلاحها، استبعادها سياسياً، وإخضاع غزة لإدارة انتقالية دولية. في المقابل، جاء رد الحركة لتثبيت عكس ذلك: فهي لا تزال تعتبر نفسها جزءاً أساسياً من أي مشروع وطني فلسطيني، وترفض أي محاولة لتصويرها كعقبة أو جسم دخيل.
هذا التناقض يعكس جوهر الصراع الراهن: هل يتم التعامل مع حماس كحركة مقاومة يجب استيعابها في أي حل سياسي، أم كتنظيم ينبغي تحييده أو تهميشه تمهيداً لإعادة صياغة غزة تحت وصاية دولية؟
وفي ظل هذا التباين الجذري، يبدو أن خطة ترامب أقرب إلى كونها إطاراً تفاوضياً أولياً لا يحظى بفرص نجاح إلا إذا أعيدت صياغته على أسس جديدة تعترف بوزن الحركة ودورها في المعادلة.

صراع بين وصاية دولية وشرعية محلية

ما بين طموح ترامب لإعادة هندسة غزة تحت وصاية دولية تقودها واشنطن وشركاؤها، وإصرار حماس على أن تكون جزءاً لا يتجزأ من أي صيغة حكم أو تسوية، يظهر أن المعركة الحقيقية ليست فقط على وقف الحرب، بل على من يمتلك حق رسم مستقبل القطاع. فالولايات المتحدة تحاول تقديم نفسها كضامن للاستقرار عبر لجنة انتقالية مدعومة دولياً، بينما ترى حماس أن الشرعية لا تُستمد إلا من الداخل الفلسطيني ومن تضحيات "المقاومة". هذا التناقض العميق يجعل أي صيغة وسطية صعبة التحقق دون تغييرات جذرية في الطرح الأميركي.

نقاط الالتقاء كمدخل لمفاوضات

رغم الخلافات الجوهرية، تكشف المقارنة أن ثمة نقاط التقاء مهمة يمكن أن تشكل قاعدة تفاوضية مستقبلية: تبادل الأسرى، وقف إطلاق النار، تدفق المساعدات، وإعادة الإعمار. هذه البنود تحمل بُعداً إنسانياً عاجلاً، وقد تشكل "مرحلة مؤقتة" تسمح بترتيب الأوضاع الميدانية ووقف نزيف الدماء، حتى لو ظلت القضايا السياسية الكبرى مؤجلة. بمعنى آخر، قد يتحول الجانب الإنساني إلى مدخل لحوار سياسي أوسع، شرط أن يُدار بواقعية وبمشاركة الأطراف الإقليمية المؤثرة.

معضلة السلاح والشرعية

يبقى ملف نزع سلاح غزة أكبر الألغام أمام أي تسوية. فبالنسبة لإسرائيل وواشنطن، يمثل السلاح تهديداً دائماً، ولا يمكن القبول بوجوده في أي صيغة حكم مقبلة. أما بالنسبة لحماس، فإن السلاح هو عنوان شرعيتها و"صمام الأمان" ضد الاحتلال، والتخلي عنه يعني عملياً نهاية دورها السياسي والعسكري. هنا تتجسد المعضلة: فإما الإبقاء على الوضع القائم بكل ما يحمله من صدامات دورية، أو البحث عن صيغة "تجميد للسلاح" دون نزعه، وهو ما قد يشكل حلاً وسطياً نظرياً لكنه صعب التطبيق عملياً.

مناورة سياسية أم بداية مسار؟

في المحصلة، يظل مصير الخطة الأميركية معلقاً على قدرتها على تجاوز هذه التناقضات. فمن جهة، قد تكون مجرد مناورة سياسية لشراء الوقت وتثبيت صورة ترامب كلاعب محوري في الملف الفلسطيني. ومن جهة أخرى، قد تتحول إلى نقطة انطلاق لمسار جديد إذا جرى تعديلها لتستوعب موازين القوى على الأرض، خصوصاً أن حماس ما زالت تملك القدرة على التعطيل أو فرض شروطها. وبين هذين الاحتمالين، تبقى غزة عنواناً لصراع مفتوح لم يقل كلمته الأخيرة بعد. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 6