كيف يوظف الإعلام الإسرائيلي خطاب "التهديد المصري" لخدمة أجنداته السياسية؟

أماني إبراهيم

2025.10.03 - 03:38
Facebook Share
طباعة

لم يكن الإعلام يومًا مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل تحول في كثير من الأحيان إلى أداة استراتيجية تستخدمها الحكومات لتشكيل الرأي العام وصناعة عدو خارجي يبرر السياسات الداخلية، هذا ما يظهر جليًا في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الأخير تجاه مصر، الذي ركز على مزاعم عن "تهديدات أمنية" قادمة من الحدود، في وقت يتزامن مع إخفاقات الاحتلال في غزة وتراجع صورته دوليًا. التحقيق التالي يحاول تفكيك أبعاد هذه الحملة الإعلامية، قراءة أدواتها وأساليبها، وتحليل أهدافها البعيدة.

 

جذور التوتر الإعلامي المصري–الإسرائيلي

منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ظل الإعلام ساحة صراع خفي بين القاهرة وتل أبيب. فرغم التزام الطرفين بالسلام الرسمي، لم يتوقف الإعلام الإسرائيلي عن محاولة تصوير مصر كجار متردد في التزاماته الأمنية. في المقابل، ظل الإعلام المصري، الرسمي والمستقل، يفضح الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ويذكّر بمحدودية "السلام الدافئ" الذي لم يرقَ إلى تطبيع شعبي.

 

ومنذ أواخر 2023 انطلقت في وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة متكررة من الروايات التي تصف الحدود مع مصر بوصفها «مسرحًا لتهديدات جديدة». هذه الروايات لم تقتصر على عنوانٍ عابر، بل أخذت شكلًا منظّمًا من الادعاءات المتقاطعة التي تكرّست في محطات إعلامية متعددة: تقارير إخبارية مسائية، تصريحات لمسؤولين أمنيين سابقين، ملخصات خبراء على القنوات الحوارية، ومنشورات سريعة على صفحات مؤثرة في مواقع التواصل. ما يربط هذه السردية الواحدة هو الإيحاء بوجود حالة «تراخي أمني» أو «ثغرات منهجية» في السيطرة على الشريط الحدودي، مع التركيز على ثلاث روايات متكررة: عبور طائرات مسيّرة من سيناء، استغلال ثغرات حدودية من قبل شبكات تهريب أو فصائل مسلحة، وتقصير مصري مفترض في حماية السيادة وتأمين الحدود.

الادعاء الأول — طائرات مسيّرة مزعومة تعبر من سيناء — صيغ بلغة تقنية تبدو موثوقة للمتلقي العادي: إشارات إلى «مقاطع رُصدت»، «مسارات طيران غير اعتيادية»، أو «ترددات اتصالات مشتبَه بها». هذا النوع من السرد يراهن على عنصر الخوف التكنولوجي؛ فالحديث عن طائرات صغيرة قادرة على اجتياز الحدود وإيصال أجهزة أو متفجرات يفتح بابًا واسعًا لتصوّر تهديد غير مرئي وصعب التحقق. ومع ذلك، حتى الآن، لم يصدر عن جهات مستقلة أو تقارير مفتوحة تحقيقات ميدانية تُقدّم أدلة واضحة (صور مُوثقة بالمكان والزمان، بيانات رصد من أجهزة محايدة، أو تحليلات بيانات كهربائية/رادارية) تُثبت وجود شبكات طائرات مسيّرة منتظمة من داخل سيناء باتجاه داخل إسرائيل. في المقابل، تُستخدم هذه المزاعم مراتٍ عديدة كأداة لخلق حالة توتّر إعلامي وتمهيد سردي يسمح بظهور مطالب سياساتية لاحقة، مثل تشديد الإجراءات الحدودية أو تبرير تحرّكات عسكرية محددة.


الادعاء الثاني — ثغرات حدودية تُستغلها جماعات تهريب أو فصائل فلسطينية — يعتمد على مزج بين وقائع محلية حقيقية (مثل حوادث تهريب منفردة أو محاولات اعتراض صغيرة) وسردية مُعمّمة تُحيل القارئ إلى «انفلات منهجي». تُروّج القنوات الإخبارية لسلسلة حوادث مفصّلة أحيانًا بلغة الاستثارة: «شبكات تنظّم معابر خفية»، «أنفاق تُعاد تشغيلها»، أو «ممرات رملية يمكن استغلالها»، ما يخلق انطباعًا بأن هناك خللًا أمنيا واسع النطاق. التحليل الصحفي الدقيق يبيّن أن كثيرًا من هذه الحوادث فردية أو محدودة النطاق، وأن مصر نفّذت منذ سنوات سياسات أمنية قاسية في سيناء شملت هدم بنى تحتية للتهريب وملاحقة مجموعات مسلّحة؛ لكن اللغة الإعلامية تُحوّل الحوادث المتناثرة إلى نمط مُتكرر يحتاج إلى «حلّ جذري»، فيُستخدم ذلك لتغذية ذريعة سياسات انتقالية أو إجراءات انتقامية.

 

الادعاء الثالث — تقصير أمني مصري في حماية الحدود — هو أكثر رواية سياسية من كونه وصفًا لواقع ميداني موحّد. هذه المقاربة تذكّر الجمهور بصيغة الاتهام: «لماذا لا تفعل القاهرة المزيد؟» أو «أين الردع المصري؟». تُلصق تلك الأسئلة في برامج النقاش بشخصيات سياسية وعسكرية مصرية مُنتقَدة، وتُروّج باعتبارها مؤشرات ضعف. ثمة هنا استخدام متعمد لآليات الضغط الإعلامي: تحميل الدولة المصرية تبعات معقدة ناجمة عن حرب طويلة وتداعياتها الاقتصادية والإنسانية، واستدعاء سيناريوهات تهجير أو استيعاب للاجئين لخلق صراع شرعنة سياسي ضد القاهرة. هذه اللعبة الإعلامية قد تخدم أهدافًا داخلية إسرائيلية (إقناع الجمهور بضرورة سياسات أمنية أشد) أو خارجية (خلق موضع ضغط على القاهرة لتمرير ترتيبات إقليمية مرفوضة لديها).

 

رغم قوة التكرار والهيئة «الرسمية» التي تمنحها استدعاءات خبراء ومسؤولين إسرائيليين سابقين، تميّز هذه الحملة الإعلامية غياب إثباتات مستقلة قاطعة: لا وجود لمراصد محايدة تُؤكد نمطًا متواصلاً للطائرات المسيّرة، ولا تقارير مفتوحة تُظهر تحويلًا منهجيًا للتهريب إلى تهديد منظّم يمكنه تعريض الدولة الإسرائيلية لأخطار استراتيجية. بدلاً من ذلك نلاحظ آليات تضخيم واضحة: إعادة نشر رواية واحدة بصيغ مختلفة، استدعاء شهادات غير موثقة، واستخدام لقطات غير موقوتة أو لقطات يمكن تفسيرها بطرق متعددة.

 

التأثير الداخلي والإقليمي لهذه السردية أكبر مما توحي به أدلتها؛ فهي لا تستهدف القاهرة وحدها، بل تسعى إلى تشكيل ضغوط دولية على مصر عبر تهيئة الرأي العام الدولي والإقليمي لقبول تفسيرات إسرائيلية للأحداث. لذلك، تحوّل الصمت المصري أو الرد الرسمي المُحدّد إلى ساحة تُنسَب لها متناقضات: صمتُ القاهرة يُقرأ أحيانًا على أنه تردّد، والرد القاطع يُعتبر من طرف آخر «تغطية» لمعايير أمنية. بيد أن التدابير العملية والأدلة الميدانية التي ظهرت علنًا تُشير إلى أن السيطرة المصرية على الشريط الحدودي ليست مسألة قابلة للتبسيط، وأن السرد الإعلامي يحتاج دائمًا إلى تقاطع حقائقي موثّق قبل أن يُقدّم كأمر واقع يستدعي تغييرًا دبلوماسيًا أو عسكريًا.

 

لماذا الآن؟

السؤال عن توقيت إطلاق هذه المزاعم ليس تفصيلاً ثانوياً، بل هو مفتاح لفهم طبيعة الرسائل الكامنة خلفها. اختيار لحظة بعينها لتصعيد الخطاب الإعلامي يعكس حاجة سياسية داخلية لدى إسرائيل، وسعيًا لإعادة تشكيل صورة الصراع في عيون جمهورها والرأي العام الدولي. ويمكن تفكيك دوافع التوقيت في أربع دوائر رئيسية:

التغطية على الفشل في غزة
بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة؛ لا القضاء على البنية التحتية للمقاومة، ولا فرض واقع سياسي وأمني جديد في القطاع. الخسائر البشرية والمادية المستمرة، مع تعثر الحملة العسكرية في تدمير القدرات القتالية الفلسطينية، خلقت حالة من الإحباط الداخلي واهتزاز الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية. هنا تأتي «الادعاءات الحدودية» كأداة لصرف الانتباه: تحويل النقاش من سؤال «لماذا فشلنا في غزة؟» إلى «هل مصر تُسهِّل الخطر علينا؟». هذه النقلة الخطابية تُفرغ النقاش الداخلي من مضمونه وتُحمّل طرفًا خارجيًا جزءًا من المسؤولية.

خلق عدو خارجي جديد
في علم السياسة، كثيرًا ما يُلجأ إلى «العدو الخارجي» كوسيلة لتوحيد الصفوف الداخلية وتخفيف حدة الانقسامات. بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، يقدّم اتهام مصر واجهة جديدة تتيح إعادة إنتاج «حالة الطوارئ» وتوجيه النقد الشعبي بعيدًا عن صلب السياسات العسكرية. فبدلاً من انقسام المجتمع حول إخفاقات القيادة، يتم إحياء خطاب «المؤامرة الإقليمية» و«التقصير العربي»، بما يمنح الحكومة متنفسًا يقيها ضغط الشارع والإعلام المحلي.

الضغط لقبول التهجير
إحدى أكثر النقاط حساسية تتمثل في ربط الحديث عن «تهديدات حدودية» بملف التهجير القسري لسكان غزة. إذ يفتح تضخيم الفكرة بابًا لممارسة ضغط سياسي على القاهرة: تصويرها كطرف «عاجز عن ضبط حدوده» يُستخدم كورقة تفاوض لدفعها إلى قبول خطط إعادة توطين أو إدخال أعداد من سكان القطاع إلى سيناء. هذه الفرضية ليست جديدة، فقد طُرحت في كواليس عدة خلال العقود الماضية، لكنها اليوم تجد في الحرب المستمرة على غزة بيئة خصبة لإعادة تدويرها تحت غطاء «ضرورات الأمن الإسرائيلي».

تخفيف العزلة الدولية
على الساحة العالمية، تواجه إسرائيل انتقادات متزايدة بسبب الانتهاكات الموثقة في غزة، من استهداف المدنيين إلى استخدام القوة المفرطة والحصار طويل الأمد. التوقيت الجديد لهذه الادعاءات يُتيح للحكومة الإسرائيلية إعادة توجيه النقاش الدولي: من جرائم حرب موثقة إلى سردية «مخاطر أمنية عابرة للحدود». وبذلك، تكتسب مساحة للمناورة أمام الرأي العام الغربي وصُنّاع القرار في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يصبح النقاش متمحورًا حول «حق إسرائيل في الدفاع عن حدودها» بدلاً من «مسؤوليتها عن الانتهاكات المستمرة».

باختصار، ليس الهدف من هذه الحملة الإعلامية مجرّد التحذير من خطر محتمل، بل استخدامها كأداة استراتيجية لتبرير إخفاقات، خلق أعداء، الضغط في ملفات سياسية حساسة، وتخفيف وطأة العزلة الدولية. وهنا تكتسب دراسة «لماذا الآن؟» بُعدًا استقصائيًا يكشف أن التوقيت جزء من السردية، لا مجرد مصادفة ظرفية.

 

كيف ردّت القاهرة؟

لم تكن الاستجابة المصرية للاحتكاكات الإعلامية الإسرائيلية ارتجالية أو انفعالية، بل اتسمت بقدر كبير من الانضباط السياسي والحسابات الدقيقة، بما يعكس إدراك القاهرة لخطورة الانجرار إلى فخ الخطاب الدعائي. ويمكن تفصيل ملامح الرد المصري في ثلاثة مسارات رئيسية:


الصمت المحسوب

اتبعت مصر سياسة «التجاهل المدروس» تجاه المزاعم المتكررة عن طائرات مسيّرة أو ثغرات حدودية. هذا الصمت لم يكن دليلاً على ضعف أو تقصير، بل مقاربة متعمدة لقطع الطريق على محاولات إسرائيل جرّ القاهرة إلى سجال إعلامي يخدم أجندتها. في المقابل، اقتصر الموقف الرسمي على بيانات مقتضبة تؤكد أن الحدود مؤمنة بالكامل وتخضع لإشراف مباشر من الأجهزة السيادية، بما يضع النقاش في إطار «الحقائق الميدانية» لا «المزايدات الإعلامية».


تثبيت الخطوط الحمراء

أوضحت القيادة المصرية، في أكثر من مناسبة، أن أي محاولة لفرض حلول تتعلق بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء خط أحمر غير قابل للتفاوض. هذا الموقف لم يُعلن فقط للرأي العام المحلي، بل نُقل بوضوح في اللقاءات الدولية والإقليمية، ما جعل القاهرة في موقع الطرف الحاسم الذي يرفض الانخراط في أي تسويات على حساب الحقوق الفلسطينية. بذلك، تحوّل الرد المصري من مجرد إنكار للادعاءات إلى إعادة تأكيد على ثوابت الأمن القومي: سيادة الأرض المصرية ورفض التلاعب بالقضية الفلسطينية.


إدارة دبلوماسية نشطة

إلى جانب الصمت الاستراتيجي، فعّلت القاهرة أدواتها الدبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي. فقد كثّفت الاتصالات مع العواصم الغربية والمنظمات الدولية لتفنيد المزاعم الإسرائيلية وإبراز طابعها السياسي، مؤكدة أن الهدف منها صرف الأنظار عن جرائم الحرب في غزة. كما واصلت مصر تنسيقها مع شركاء عرب رئيسيين لإظهار أن هذه الادعاءات لا تستهدف القاهرة وحدها، بل تُعد جزءًا من مخطط أوسع يهدف إلى إعادة صياغة التوازنات في المنطقة.

بهذه الاستراتيجية المتعددة المستويات، نجحت القاهرة في الحفاظ على توازن دقيق: فهي لم تمنح إسرائيل فرصة لصناعة «عدو إعلامي»، ولم تسمح في الوقت نفسه بمرور الادعاءات دون ردود رادعة، بل أدرجتها في سياقها الصحيح كأداة دعائية مرتبطة بإخفاقات عسكرية وسياسية.

 

أساليب التضليل الإسرائيلي

لم يعد الإعلام في الصراع العربي–الإسرائيلي مجرد وسيلة نقل أخبار، بل تحول إلى أداة ضغط سياسي ونفسي تعمل جنبًا إلى جنب مع القوة العسكرية. ومن خلال رصد الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الأخير، يمكن تبيّن أربع آليات أساسية تُستخدم في صناعة وترويج الروايات المضللة:


استخدام الخبراء الأمنيين
تعمد القنوات والصحف الإسرائيلية إلى استضافة ضباط سابقين وخبراء عسكريين يمنحون الروايات غير الموثقة غطاءً من "المصداقية المهنية". هذا النمط يخلق انطباعًا لدى المتلقي بأن الحديث لا يأتي من صحفيين أو محللين سياسيين فقط، بل من أشخاص يمتلكون خبرة ميدانية ومعرفة بالملفات الأمنية. غير أن هذه "الخبرة" تُستغل في تمرير مزاعم غير مثبتة، بحيث يختلط الرأي بالمعلومة، ويصبح التكذيب أكثر صعوبة أمام جمهور واسع.


التكرار والتضخيم
من أهم أدوات التضليل إعادة نشر الادعاءات نفسها بصيغ مختلفة وعلى منصات متعددة. فالخبر الذي يُذاع مرة واحدة قد يُستقبل بشك أو تساؤل، لكن تكراره من مصادر مختلفة – حتى لو كانت تستند جميعًا إلى الأصل ذاته – يمنحه وزنًا إعلاميًا مضاعفًا، ويخلق شعورًا لدى الجمهور بوجود "حقيقة مؤكدة". هذا الأسلوب يُحوّل الادعاء من مجرد إشاعة إلى "قضية رأي عام" يجري نقاشها في البرامج الحوارية والتقارير اليومية.


اللعب على الوتر النفسي
تستغل إسرائيل صورة سيناء في المخيلة الدولية كمنطقة صحراوية مترامية الأطراف يصعب ضبطها، لترويج فكرة أنها "رخوة أمنيًا" وقابلة للاختراق. بهذا التصوير، يصبح أي حديث عن "ثغرات حدودية" منطقيًا لدى جمهور غير مطلع على حقيقة الإجراءات المصرية المشددة في المنطقة. الهدف من هذه الرواية ليس فقط الإيحاء بضعف الأمن المصري، بل أيضًا فتح الباب أمام شرعنة تدخلات محتملة تحت عنوان "معالجة الخطر".

 

توظيف منصات التواصل
في زمن الإعلام الرقمي، لم يعد التضليل يعتمد على المقالات المطولة أو نشرات الأخبار فقط. إذ تلجأ إسرائيل إلى إنتاج روايات قصيرة، سهلة الانتشار، مرفقة بصور أو مقاطع فيديو قديمة أو مجهولة المصدر، ثم تُنشر بكثافة على منصات مثل "إكس" و"تيك توك". هذا النمط يضاعف التأثير النفسي، حيث تصل الرسائل مباشرة إلى الجمهور العام، خصوصًا فئة الشباب، وتنتشر بسرعة تفوق قدرة الإعلام التقليدي على التصحيح أو النفي.

بهذه الأدوات المتكاملة، يتحول الإعلام الإسرائيلي من مجرد ناقل لوجهة نظر رسمية إلى "سلاح ناعم" يُستخدم لتشكيل الوعي، التأثير على المواقف، وإعادة صياغة النقاشات المحلية والدولية بما يخدم الأهداف السياسية والعسكرية.

 


التصعيد الإعلامي الإسرائيلي ضد مصر لم يأتِ على هيئة أخبار عابرة أو تحليلات منعزلة عن سياقها، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة تستهدف إعادة صياغة صورة مصر أمام الداخل الإسرائيلي والرأي العام الدولي. فالإعلام هنا يُستخدم كسلاح مكمل للسياسة والعسكر: يضغط، ويشوّه، ويُغطي على الفشل، ويُعيد ترتيب الأولويات في الوعي الجمعي.


التشويه كآلية ضغط سياسي
الاتهامات الموجهة إلى مصر بوجود "ثغرات حدودية" أو "تقصير أمني" لا تُبنى على وقائع مثبتة بقدر ما تُبنى على الحاجة لخلق عدو خارجي جديد. التشويه ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لإنتاج "ورقة ضغط" يمكن استخدامها في ملفات حساسة مثل التهجير القسري للفلسطينيين أو إعادة صياغة معادلات أمن الحدود.

 

التغطية على الفشل الداخلي
تستغل إسرائيل هذه الحملات الإعلامية كستار دخاني للتغطية على إخفاقاتها المتواصلة في غزة. فبعد أكثر من عامين من العمليات العسكرية، لم يتحقق أي من الأهداف المعلنة، فيما تتسع دائرة الانتقادات الدولية بشأن الانتهاكات ضد المدنيين. في مثل هذا المناخ، يُصبح توجيه الاتهام لمصر أداة لإلهاء الداخل الإسرائيلي، وتحويل الأنظار من الأسئلة الصعبة عن جدوى الحرب.


وعي القاهرة للفخ الإعلامي
مصر حتى الآن تتعامل مع هذه الحملات بسياسة "الصمت المحسوب". فالإفراط في الرد يمنح الروايات الإسرائيلية زخمًا إضافيًا، بينما التجاهل الكامل قد يُفهم على أنه ضعف. لذا، اعتمدت القاهرة نهجًا مزدوجًا: بيانات مقتضبة تنفي المزاعم وتؤكد السيطرة على الحدود، إلى جانب تحركات دبلوماسية تسحب المصداقية من الخطاب الإسرائيلي وتكشف طابعه السياسي أمام المجتمع الدولي.


التحدي أمام الإعلام المصري
أمام هذا المشهد، يُطرح سؤال ملح: كيف يمكن للإعلام المصري أن يحافظ على خطابه المهني المقاوم دون أن يمنح إسرائيل مبررًا لمغامرة جديدة؟ التوازن هنا شديد الحساسية: فمن جهة، ثمة حاجة لتفنيد الادعاءات وكشف التضليل وتوضيح الحقائق للرأي العام المحلي والدولي؛ ومن جهة أخرى، يجب ألا يتحول الخطاب إلى استفزاز يُستغل لتبرير مزيد من التصعيد أو الانتهاكات.

 

نحو استراتيجية إعلامية مضادة
التعامل مع هذه الحملات لا يقتصر على الردود العاجلة، بل يتطلب استراتيجية طويلة المدى تقوم على:

إنتاج رواية بديلة مدعومة بالأرقام والصور والوثائق، تُبرز الجهود المصرية في ضبط الحدود ومحاربة الإرهاب.

الاشتباك الذكي مع الإعلام الدولي عبر تقديم سرديات مهنية بلغات مختلفة تُسقط مزاعم إسرائيل من جذورها.

تعزيز المهنية الداخلية بحيث لا يكون الرد مجرد عاطفة أو انفعال، بل جزءًا من خطاب رصين يُبنى على الحقائق والتوثيق.


بهذا المعنى، فإن التحدي لا يقتصر على مواجهة إسرائيل في حرب الرواية، بل يمتد إلى بناء إعلام مصري قادر على المناورة الذكية، يفضح الدعاية دون أن يُستدرج إلى فخاخها، ويحافظ في الوقت ذاته على موقع القاهرة كطرف إقليمي يحمي استقراره ويحدد بنفسه قواعد الاشتباك.

 

الإعلام كساحة موازية للحرب

لم يعد الصراع بين مصر وإسرائيل – أو بين إسرائيل ومحيطها العربي عمومًا – مقصورًا على حدود الجغرافيا أو موازين السلاح التقليدية. فمنذ سنوات، أخذت الحرب الإعلامية مكانها كجبهة موازية لا تقل أهمية عن الميدان العسكري. وفي ظل العجز الإسرائيلي عن حسم معركته في غزة عسكريًا أو سياسيًا، تحولت منصات الإعلام إلى ميدان بديل يسعى من خلاله الاحتلال إلى إعادة رسم صورة "التهديد" وتبرير سياساته أمام الداخل والخارج.

بالنسبة لمصر، تمثل هذه الحملات تحديًا مزدوجًا: فهي من ناحية محاولة مكشوفة لإضعاف دور القاهرة الإقليمي ودفعها نحو خيارات تتعارض مع ثوابتها الاستراتيجية؛ ومن ناحية أخرى، اختبار لقدرة الإعلام المصري على التصدي لحملات التضليل دون الوقوع في فخ التصعيد غير المحسوب. إن المعركة هنا لم تعد فقط حول من يملك السلاح الأقوى، بل حول من يملك الرواية الأكثر إقناعًا وصدقية.

إن استمرار هذه المواجهة الإعلامية يعني أن توازن القوى في المنطقة لن يُقاس فقط بقدرات الجيوش أو التحالفات السياسية، بل أيضًا بمدى قدرة الدول على إدارة معارك "الوعي العام" محليًا ودوليًا. وهنا يتضح أن معركة مصر مع التضليل الإسرائيلي ليست مجرد ردود آنية، بل هي صراع طويل الأمد على الرواية والشرعية، صراع يتطلب حشد أدوات الإعلام المهني، والدبلوماسية الذكية، والوعي الشعبي المقاوم.

ففي النهاية، قد تُحسم المعارك على الأرض بقوة السلاح، لكن مسار التاريخ يُكتب غالبًا بأقلام الإعلام وصنّاع السرديات.


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 2