أرض بلا ضمانات.. كيف يربط فيضان رشيد مصير الفلاح المصري بالقرار الإثيوبي؟

أماني إبراهيم

2025.10.03 - 12:08
Facebook Share
طباعة

 لم يعد فيضان النيل مشهدًا طبيعيًا يتكرر مع المواسم، بل تحول إلى إنذار مفتوح يكشف هشاشة الأمن المائي في مصر والسودان أمام القرارات الأحادية القادمة من الهضبة الإثيوبية. ففي قرى فرع رشيد بالمنوفية، وجد المزارعون أنفسهم بين مطرقة تحذيرات الإخلاء الرسمية وسندان غياب أي ضمانات تعويضية عن خسائر أراضي "طرح النهر". وبينما تصر الحكومة على أن السد العالي ما يزال صمام الأمان، يرى خبراء أن التصريفات المفاجئة من سد النهضة تجعل مصير الفلاح المصري مرهونًا بقرار سياسي يُتخذ في أديس أبابا، لا في القاهرة. هنا، يتجاوز الفيضان حدود القرية الغارقة ليعكس معركة أكبر على ضفاف النيل، معركة تختلط فيها حسابات التنمية بالسيادة، وتتشابك فيها حقوق الشعوب مع طموحات الدول.


ومع بداية أكتوبر، تحولت ضفاف فرع رشيد من نهر النيل إلى مشهد يثير القلق: منازل مهددة بالغرق، ومزارعون يتركون أراضيهم على عجل، وسط تحذيرات متصاعدة من السلطات المحلية في محافظة المنوفية بضرورة إخلاء "أراضي طرح النهر". وبينما تؤكد الحكومة أن السد العالي قادر على استيعاب الزيادات المائية، تشير أصابع الاتهام مجددًا إلى أديس أبابا وتصريفاتها الأحادية من سد النهضة، التي باتت تؤثر على السودان ومصر على حد سواء. فهل ما يحدث مجرد فيضان موسمي؟ أم أنه انعكاس لصراع إقليمي على المياه، تتداخل فيه حسابات السياسة مع المخاطر البيئية؟

قرى مهددة وأراضٍ بلا ضمانات

في مركز أشمون بمحافظة المنوفية، لم يكن إخطار السلطات للأهالي بإخلاء المنازل والأراضي الواقعة على طرح النهر مجرد إجراء روتيني، بل أشبه بإنذار يذكّرهم كل عام بأن حياتهم مرتبطة بقرار لا يملكون فيه أي خيار. مئات الأسر تلقت التعليمات في وقت واحد، لترى نفسها مضطرة إلى ترك محاصيل زرعتها طوال شهور، دون أن تعرف إن كانت ستعود لتجدها قائمة أم غارقة تحت مياه النيل.

ورغم أن هذه المشاهد تبدو مألوفة للفلاحين الذين اعتادوا التعامل مع خطر الفيضان، فإن ما يضاعف من إحساسهم بالظلم هو المفارقة الصارخة: الأرض التي يُطلب منهم إخلاؤها تستأجرها الدولة نفسها إليهم عبر وزارة الري، مقابل مبالغ مالية تُدفع بشكل منتظم، لكنها لا تمنحهم في المقابل أي ضمانات تعويضية في حال خسارتهم للمحصول أو غرق منازلهم.

أحد المزارعين عبّر عن هذا التناقض بمرارة في حديثه لـ"وكالة أنباء آسيا":

> "ندفع الإيجار ونزرع كل عام، ورغم معرفتنا بالخطر، لم تعرض علينا الحكومة أي بدائل أو تأمين. إذا غرقت الأرض نخسر وحدنا".

 

تصريحات كهذه تكشف فجوة واسعة بين السياسات الرسمية وواقع الناس على الأرض. فبينما تُلقي الحكومة المسؤولية على الطبيعة وتقلبات النيل، يتحمل الفلاح وحده الخسارة، بلا أي نظام تأميني أو خطة بديلة تعوّضه. وهنا يبرز السؤال الأعمق: إذا كانت الدولة نفسها تؤجر هذه الأراضي، فهل تقع عليها مسؤولية قانونية وأخلاقية لحماية المزارعين من الخسائر المحتملة؟ أم أن الأمر يظل في خانة "المخاطرة المعروفة" التي يتحملها المستأجرون وحدهم؟

هذا التناقض يفتح الباب أمام نقاش أوسع: هل يمكن اعتبار سياسة تأجير أراضي طرح النهر، في ظل غياب ضمانات وتعويضات، إدارة رشيدة لمورد طبيعي حساس، أم أنها تترك المزارعين مكشوفين أمام كارثة متكررة، وتحوّل الفيضان من ظاهرة طبيعية إلى أزمة اجتماعية واقتصادية مزمنة؟

 

السودان: ضحية التصريف المفاجئ

لم يقتصر وقع التحذيرات على الداخل المصري، إذ امتد الصدى جنوبًا إلى السودان، حيث يعيش السكان على ضفاف النيل الأزرق في حالة من القلق الدائم مع كل تغير مفاجئ في مناسيب المياه. منتصف الأسبوع الماضي، أصدرت وزارة الري السودانية بيانًا عاجلًا حذرت فيه المواطنين من مخاطر فيضانات قد تجتاح الممتلكات وتهدد الأرواح، بعدما سجلت محطات الرصد ارتفاعًا مقلقًا في مستويات النهر.

البيانات الرسمية كشفت أن تصريف سد الروصيرص انخفض بشكل مفاجئ إلى 613 مليون متر مكعب يوميًا، في حين ظل تدفق النيل الأزرق القادم من إثيوبيا في حدود 699 مليون متر مكعب. هذه الفجوة بين الوارد والصادر ليست مجرد أرقام فنية، بل دليل مباشر على وجود تذبذب غير منسق في التصريف المائي، وهو ما يربطه الخبراء بسياسة الإدارة الأحادية التي تعتمدها أديس أبابا في تشغيل سد النهضة.

هذا التذبذب جعل السودان أول المتأثرين قبل أن تصل التداعيات شمالًا إلى مصر. فالفيضانات المفاجئة التي يواجهها السودانيون تعني أن القرى الواقعة على ضفاف النهر عرضة للغرق خلال ساعات، دون أن تُمنح الأسر فرصة كافية للإجلاء أو حماية ممتلكاتها. وبالنظر إلى هشاشة البنية التحتية وضعف أنظمة الإنذار المبكر في عدد من المناطق السودانية، يتحول أي تغير مفاجئ في التصريف إلى كارثة إنسانية يصعب احتواؤها.


السودان يعيش وضعًا معقدًا، فهو من جهة قد يستفيد من سد النهضة عبر تقليل حدة الفيضانات الموسمية وتوفير كهرباء رخيصة، لكنه من جهة أخرى يظل الأكثر عرضة لمخاطر التصرفات الأحادية المفاجئة. وبينما يحاول المسؤولون في الخرطوم التوازن بين هذه المكاسب والمخاطر، يجد المواطن البسيط نفسه في مواجهة مباشرة مع النهر، بلا ضمانات أو حماية كافية.

 

إثيوبيا.. إدارة أحادية لملف حيوي

منذ أن بدأت إثيوبيا في الملء الأول لسد النهضة عام 2020، تبنّت سياسة تقوم على الانفراد بالقرار في تشغيل السد وتصريف المياه، بعيدًا عن أي اتفاق قانوني أو فني مُلزم مع دول المصب. هذه السياسة التي ترفعها أديس أبابا تحت شعار "السيادة الوطنية" تحولت في نظر القاهرة والخرطوم إلى خطر استراتيجي، لا يقتصر على تقليص حصص المياه التاريخية، بل يمتد ليشمل فيضانات مفاجئة أو موجات جفاف موسمية تهدد حياة ملايين السكان.

تتهم مصر إثيوبيا بأنها تتعامل مع السد باعتباره مشروعًا داخليًا، في حين أن موقعه على النيل الأزرق – الشريان الأساسي للنهر – يجعل قرارات تشغيله ملفًا إقليميًا بامتياز. القاهرة ترى أن تجاهل التنسيق يضع السد العالي تحت ضغط مستمر، ويقوّض قدرة الدولة على التخطيط طويل المدى للزراعة والمياه. أما الخرطوم، فترى نفسها عالقة بين وعدين: وعد بالفوائد المحتملة في تنظيم التدفقات وتوليد الكهرباء، وواقع مرير من التصريفات المفاجئة التي تتسبب في فيضانات تهدد المواطنين.

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي حذّر مؤخرًا من أن التصرفات "غير المنسقة" من جانب أديس أبابا كانت السبب المباشر في تفاقم فيضانات السودان، مشيرًا إلى أن شهر أكتوبر تحديدًا يشهد عادةً معدلات تصريف أعلى من المتوسط، ما يجعل الخطر مضاعفًا على كل من السودان ومصر. وأكد أن استمرار هذه السياسة يعني أن مصير أراضي طرح النهر في مصر، والممتدة على طول فروع النيل، بات مرتبطًا بقرار سياسي في أديس أبابا أكثر من ارتباطه بخطط الحكومة المصرية نفسها.

وبينما تؤكد إثيوبيا أنها تمارس "حقًا سياديًا" في استغلال مواردها الطبيعية لتوليد الكهرباء وتحقيق التنمية، فإن المراقبين يحذرون من أن إدارة النهر بشكل منفرد تحوّل النيل من مصدر حياة وتعاون إلى بؤرة توتر إقليمي مزمن. ومع غياب اتفاق مُلزم، يظل الخطر الأكبر قائمًا: أن يتحول سد النهضة إلى أداة ضغط سياسي تُستخدم وفق حسابات داخلية إثيوبية، بدلًا من أن يكون مشروعًا للتنمية المشتركة في حوض النيل.


التناقض بين السد العالي والتحذيرات

من جانبه، يرى الدكتور عباس شراقي، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، أن السد العالي ما يزال يلعب دور "صمام الأمان" في مواجهة أي ارتفاع مفاجئ في منسوب النيل، بفضل سعته التخزينية الهائلة التي تجاوزت في بعض الفترات 160 مليار متر مكعب. وهو ما يمنح مصر مرونة نسبية في التعامل مع أي تقلبات موسمية. غير أن شراقي يعترف بأن بعض الأراضي المنخفضة، خاصة في مناطق طرح النهر والدلتا، تظل عرضة للغمر الدوري بالمياه، الأمر الذي يفسر تحذيرات الحكومة للمزارعين والسكان المحليين.

لكن هذا الرأي يطرح مفارقة لافتة: إذا كان السد العالي قادرًا على استيعاب التدفقات المائية المرتفعة، فلماذا تصر الدولة على إطلاق تحذيرات موسمية متكررة؟ وهل تعكس هذه التحذيرات مجرد حرص استباقي لتقليل الخسائر المحتملة، أم أنها تحمل أيضًا أبعادًا سياسية مرتبطة بملف سد النهضة؟

المتابعون للملف يطرحون احتمال أن تتحول هذه التحذيرات إلى رسالة مزدوجة؛ فهي من جهة تؤكد على يقظة أجهزة الدولة واستعدادها لمواجهة أي طارئ، ومن جهة أخرى تستخدم كورقة ضغط في المفاوضات مع إثيوبيا، عبر الإشارة إلى أن تصريفات غير منسقة من سد النهضة قد تضع مصر أمام مخاطر إنسانية واقتصادية متزايدة.

في المقابل، يذهب بعض الخبراء إلى أن ما يظهر من تناقض ليس سوى انعكاس للواقع المعقد: فالسد العالي بالفعل يوفر حماية استراتيجية، لكنه ليس قادرًا على منع كل الأضرار الجانبية مثل غمر الأراضي الزراعية، تآكل بعض الجسور الترابية، أو اضطراب حركة الصيد والملاحة المحلية. كما أن قدرة السد مرتبطة بالمدى الطويل، بينما تصريفات إثيوبيا المفاجئة تخلق تحديات آنية لا يمكن دائمًا امتصاصها بسلاسة.

وعليه، يمكن القول إن التحذيرات الحكومية ليست فقط إجراءات احترازية، وإنما أيضًا جزء من خطاب سياسي وإعلامي يهدف إلى إبراز هشاشة الوضع المائي في ظل غياب اتفاق مُلزم حول سد النهضة، وهو ما يضع الداخل المصري أمام مشهد مزدوج: طمأنة رسمية بفضل السد العالي، يقابلها قلق متجدد من احتمالات لا يمكن التحكم فيها بالكامل.


أزمة محلية تكشف معضلة إقليمية

ما يجري اليوم في المنوفية والبحيرة لا يمكن اختزاله في كونه حادثًا موسميًا عابرًا مرتبطًا بارتفاع منسوب النيل. فالمزارع المصري الذي يراقب محصوله يغمره الماء في أراضي طرح النهر بأشمون، والسوداني الذي يقف على عتبة منزله مترقبًا وصول الفيضان، ليسا مجرد ضحايا لتقلبات الطبيعة، بل يمثلان انعكاسًا مباشرًا لصراع سياسي وإقليمي معقد.

هذا المشهد يكشف معضلة أعمق: القرارات التي تُتخذ في أديس أبابا بشأن تشغيل سد النهضة، أو في الخرطوم حول إدارة السدود السودانية، أو في القاهرة بخصوص سياسات التخزين والتحذير، تتحول في النهاية إلى أحداث يومية تمس حياة ملايين البسطاء. فهؤلاء المزارعون والصيادون والسكان المحليون، الذين يفتقرون إلى أدوات التأثير في المفاوضات الدولية، يجدون أنفسهم في الخط الأمامي للأزمة، يدفعون ثمن صراع إقليمي على المياه بوسائلهم البسيطة: خسارة محصول، أو نزوح قسري، أو مواجهة خطر الغرق.

وتطرح هذه الأزمة المحلية أسئلة جوهرية تتجاوز حدود القرية أو المحافظة: هل يمكن لدولة المصب أن تحمي مواطنيها من قرارات أحادية الجانب في المنبع؟ وهل باتت الزراعة والأمن الغذائي رهائن للسياسات الإقليمية؟ إن ما يحدث في رشيد أو الروصيرص ليس مجرد تفاصيل فنية في إدارة المياه، بل هو تجسيد حي للمعادلة السياسية التي تحكم حوض النيل: توازن هش بين سدود عملاقة، وصراعات سيادة، وأزمات إنسانية متكررة.

 

سؤال مفتوح على المستقبل

يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم: هل تستطيع مصر والسودان انتزاع اتفاق قانوني وملزم مع إثيوبيا يضمن تشغيل سد النهضة وفق قواعد واضحة تراعي حقوق التنمية في المنبع وتحافظ على الأمن المائي في المصب؟ أم أن المشهد الأقرب هو استمرار السيناريو الأسوأ، حيث تتكرر التحذيرات الرسمية والإخلاءات القسرية والفيضانات المفاجئة، لتصبح جزءًا من روتين حياة الملايين على ضفاف النيل؟

الخيارات المطروحة لا تبدو سهلة؛ فغياب الاتفاق يجعل إدارة المياه في حوض النيل مرهونة بتصرفات أحادية، بينما يضيف تغير المناخ عنصرًا آخر من عدم اليقين، إذ تتزايد حدة الفيضانات في مواسم وتشتد موجات الجفاف في مواسم أخرى. وهنا، يصبح الخطر مزدوجًا: تهديد مباشر للزراعة والأمن الغذائي في مصر والسودان، وتحدٍ طويل الأمد للاستقرار الاجتماعي والسياسي في واحدة من أكثر مناطق إفريقيا حساسية.

إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل أراضي طرح النهر في رشيد أو الروصيرص، بل أيضًا شكل العلاقة بين ثلاث دول يربطها نهر واحد، ومصير ملايين البشر الذين لم يشاركوا يومًا في صياغة القرارات، لكنهم الأكثر تضررًا من نتائجها.

 

سد النهضة الإثيوبي ليس مجرد مشروع هندسي ضخم على ضفاف النيل الأزرق، بل يمثل نقطة تحول استراتيجية في معادلة الصراع المائي في إفريقيا. فمنذ أن بدأت أديس أبابا عملية ملء خزانه عام 2020 بشكل أحادي ودون اتفاق مع دولتي المصب، دخلت المنطقة في واحدة من أعقد الأزمات المائية والسياسية في العالم.

بالنسبة لمصر، التي تعتمد على نهر النيل في أكثر من 95% من احتياجاتها المائية، يُنظر إلى السد باعتباره تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، ليس فقط بسبب احتمال تقليص حصتها من المياه، وإنما أيضًا بسبب ما قد يسببه من اختلالات مفاجئة في التدفقات قد تنعكس على الزراعة، والشرب، وحتى تشغيل السد العالي. أما السودان، فيقف في موقع أكثر التباسًا: فهو يرى في السد فرصة محتملة لتنظيم جريان النيل والاستفادة من الكهرباء، لكنه يخشى في الوقت نفسه من سيناريوهات خطيرة تشمل الفيضانات المفاجئة أو نقص الإمدادات إذا لم تُحسم آليات التشغيل والتنسيق.

في المقابل، تتمسك إثيوبيا بخطاب قومي يعتبر السد مشروع "القرن" وأداة للتحرر من الفقر عبر توليد نحو 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء، مؤكدة أن أي اعتراض من القاهرة أو الخرطوم هو تدخل في سيادتها. وبين هذه المواقف المتباعدة، يبقى سد النهضة أكثر من مجرد منشأة مائية: إنه رمز لصراع سيادة وحقوق تاريخية، ومرآة للتوازنات الهشة بين التنمية الوطنية والمصالح الإقليمية.

 

إذا كان سد النهضة يمثل اليوم عنوانًا للأزمة والتوترات الإقليمية، فإن تجربة السد العالي في مصر قبل أكثر من نصف قرن تُظهر الوجه الآخر لمعركة السيطرة على النيل. فعندما اكتمل بناؤه عام 1970، بدا وكأنه انتصار هندسي وسياسي لمصر الحديثة، مكَّنها من تحويل مجرى النهر من مصدر للقلق والخطر إلى رافعة للتنمية والسيادة. فقد وفر السد قدرة هائلة على التحكم في تدفقات النيل، وحمى البلاد من فيضانات مدمرة ومواسم جفاف قاسية كانت تترك آثارًا كارثية على ملايين الفلاحين.

وبفضل بحيرة ناصر، التي تُعد من أكبر الخزانات المائية في العالم، امتلكت القاهرة مخزونًا استراتيجيًا للطوارئ مكَّنها من مواجهة تقلبات النهر وضمان استمرار الزراعة وتوليد الكهرباء. لكن المفارقة أن هذا "الدرع" الذي اعتُبر يومًا صمام الأمان المطلق، بات اليوم في مواجهة اختبارات غير مسبوقة. فالتغيرات المناخية، من فيضانات مفاجئة إلى موجات جفاف قاسية، تتداخل مع الضغوط الإقليمية الناجمة عن مشروع سد النهضة، لتجعل من السد العالي خط الدفاع الأول والأخير في وقت واحد.

وهكذا، تتحول المقارنة بين السدين إلى أكثر من مجرد مواجهة هندسية: فهي تعكس صراع أجيال بين مشروع مصري قديم بُني على فلسفة التحكم والسيادة، ومشروع إثيوبي جديد قائم على فلسفة الاستغلال والتنمية الأحادية، فيما يظل مصير ملايين البشر مرهونًا بمدى قدرة هذه السدود على التعايش أو التصادم.


لكن ما بين السد العالي الذي وُلد كرمز للسيطرة على النهر، وسد النهضة الذي يمثل عنوانًا للخلاف الإقليمي، تظل الصورة الأكثر وضوحًا على الأرض هي معاناة الفلاحين البسطاء مع أراضي طرح النهر. هذه المساحات الزراعية الضيقة الممتدة على جانبي مجرى النيل، تحولت إلى مقياس يومي لحساسية إدارة المياه. فهي بارومتر دقيق لأي خلل في المنسوب: ارتفاع طفيف يكفي لإغراقها وتحويلها من مصدر رزق إلى بؤرة خسائر متكررة.

ورغم أن عائدها الاقتصادي محدود، فإنها تمثل شريان حياة لآلاف الأسر الريفية، إذ يعتمدون عليها في زراعة محاصيل موسمية تضمن الحد الأدنى من الدخل. ومع ذلك، تدار هذه الأراضي بنظام الإيجار الموسمي من وزارة الري، من دون أي ضمانات تعويضية في حال الغرق، ما يجعل الفلاحين الحلقة الأضعف في معادلة النهر. وهنا يتجلى التناقض الأكبر: بينما تخوض الحكومات مفاوضات معقدة حول مليارات الأمتار المكعبة من المياه، يبقى الفلاح الصغير رهينة كل قرار سياسي أو تصرف أحادي على بعد آلاف الكيلومترات.

ولا يحتاج سكان وادي النيل إلى الرجوع كثيرًا في التاريخ لتذكر آثار هذه الهشاشة. ففي السودان عام 2019، اجتاحت الفيضانات غير المسبوقة قرى بأكملها، أودت بحياة المئات وشرّدت مئات الآلاف، ودمّرت البنية التحتية والزراعة. وفي مصر، لا تزال صور فرع رشيد والدلتا الشمالية محفورة في الذاكرة القريبة، حين غمرت المياه مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وأفقدت الفلاحين محاصيلهم وأهلكت مصادر رزقهم.

هذه السوابق تجعل من أراضي طرح النهر مرآة تكشف أن إدارة النهر ليست شأنًا تفاوضيًا أو فنيًا فحسب، بل مسألة وجودية تمس حياة ملايين البشر، حيث تتحول أخطاء السياسة أو آثار التغير المناخي إلى كوارث محققة على مستوى القرى والحقول.


إن ما يبدو أزمة محلية في دلتا النيل، حيث يخسر الفلاح أرضه في أشمون أو يراقب المزارع في رشيد محصوله وهو يختفي تحت المياه، ليس إلا وجهًا آخر لمعركة أكبر تتجاوز حدود القرى وتصل إلى قلب الصراع الإقليمي على التحكم في شريان الحياة. فالنيل، الذي طالما شكّل رابطًا حضاريًا بين شعوب حوضه، أصبح اليوم محورًا للتجاذبات السياسية والرهانات الاستراتيجية، حيث لم تعد إدارته مسألة فنية تخص مهندسي الري أو خبراء السدود، بل تحولت إلى ملف أمني يمس سيادة الدول واستقرارها.

ومع كل موسم فيضان أو تراجع في المنسوب، يتضح أن القرارات المتخذة في أديس أبابا أو القاهرة أو الخرطوم لا تبقى حبيسة غرف التفاوض، بل تنعكس مباشرة على حياة ملايين البسطاء الذين يجدون أنفسهم في مواجهة خسائر لا يد لهم فيها. وهكذا، فإن التحكم في النهر لم يعد مجرد مسألة مائية، بل صار أداة من أدوات القوة الإقليمية، ومؤشرًا على قدرة الدول على حماية مواطنيها أو تركهم عُرضة لتقلبات الطبيعة وتداعيات السياسات الأحادية.

ومهما تعددت المواقف والقراءات، يظل النيل شريانًا واحدًا، وأي خلل في إدارته يتحول بسرعة إلى تهديد عابر للحدود: من فيضانات تطيح بمنازل السودانيين، إلى أراضٍ مصرية تغمرها المياه، وصولًا إلى تحديات أكبر تهدد الأمن الغذائي والسكاني في المنطقة كلها. وبذلك يتضح أن الأزمة ليست مجرد "ارتفاع منسوب" بل معركة وجودية تضع حاضر ومستقبل شعوب حوض النيل على المحك.

 

في ضوء هذه المعطيات، يتأكد أن معركة النيل لم تعد مجرد نزاع تقني حول قواعد ملء وتشغيل سد، بل تحولت إلى اختبار سياسي لمدى قدرة دول الحوض على تجاوز الحسابات الضيقة والانتقال إلى شراكة حقيقية في إدارة مورد مشترك. فالتجارب أثبتت أن أي خطوة أحادية – من إثيوبيا أو غيرها – تنعكس سريعًا على ملايين السكان في السودان ومصر، وتفتح الباب أمام كوارث بيئية وزراعية يصعب احتواؤها. وفي المقابل، أثبت السد العالي رغم أهميته أن قدرته على الحماية ليست مطلقة، وأنه لا يمكن أن يظل خط الدفاع الوحيد في مواجهة الضغوط الطبيعية والسياسية المتزايدة.

إن استمرار الأوضاع على هذا النحو يعني أن مشاهد الإخلاء والفيضانات ستتكرر عامًا بعد عام، ما يرسّخ حالة عدم الاستقرار في أوسع حوض مائي بالقارة، ويدفع شعوب النيل إلى دفع ثمن صراع لم يختاروه. لكن الفرصة ما تزال قائمة: اتفاق ملزم يوازن بين حق إثيوبيا في التنمية وحق مصر والسودان في الأمن المائي قد يحوّل النيل من مصدر توتر إلى محور تعاون، ومن تهديد دائم إلى رافعة استقرار إقليمي.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 10