البحر اللبناني لطالما شكل متنفساً للسكان ومصدر رزق لآلاف العائلات الساحلية، إلا أن الوضع الراهن أصبح يثير القلق بشكل متزايد. من أصل 38 شاطئاً تم مراقبتها وفق بيانات المجلس الوطني للبحوث العلمية، صُنفت 24 فقط صالحة للسباحة، بينما بقيت المواقع الأخرى غير آمنة بسبب تراكم الملوثات، هذه الأرقام تكشف عن أزمة بيئية عميقة، تتخطى حدود الاستجمام الصيفي لتصل إلى أبعاد اقتصادية واجتماعية وصحية حادة.
المياه الساحلية تعاني من التلوث الشديد، إذ تُصرف نسبة كبيرة من مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر دون معالجة، وفق دراسات صادرة عن منظمة الصحة العالمية هذه الممارسات تزيد من تركيز البكتيريا والملوثات، ما يجعل الشواطئ غير صالحة للسباحة في فترات كثيرة من السنة.
كما رصدت دراسات علمية في محمية جزر النخيل مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة مثل الكادميوم والرصاص والزرنيخ، إضافة إلى مواد كيميائية مرتبطة بالبلاستيك (Phthalates)، بعضها يتجاوز الحدود المسموح بها دولياً. استهلاك الأسماك والمحار من هذه المياه يعرض الإنسان لمخاطر صحية مباشرة، بما في ذلك ارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض مزمنة كالسرطان وأمراض الكبد والكلى.
على مستوى المخلفات الصلبة، تشير تقديرات من البنك الدولي إلى أن نحو 950 ألف متر مكعب من الملوثات السائلة تصل يومياً إلى الساحل، إضافة إلى آلاف المكبات العشوائية المنتشرة قرب الشاطئ هذه المخلفات لا تلوث المياه فقط، بل تؤثر على الكائنات البحرية وتقلل التنوع البيولوجي، ما يهدد التوازن البيئي لسنوات طويلة.
الجانب الاقتصادي متأثر بشدة أيضاً. تراجع المخزون السمكي يضع آلاف الصيادين أمام فقدان مصدر رزقهم، بينما تتضرر السياحة الشاطئية نتيجة شواطئ غير آمنة للسباحة، ما يؤدي إلى انخفاض الدخل المحلي في المدن الساحلية ويزيد الضغوط على الاقتصاد اللبناني المنهك.
الضرر الاجتماعي لا يقل خطورة. فقدان مصادر رزق، تلوث الغذاء البحري، وتراجع الأنشطة الترفيهية تعني ضغوطاً متصاعدة على المجتمعات الساحلية، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتراجع نوعية حياة السكان.
المبادرات الحكومية حتى الآن محدودة، مثل إنشاء مناطق بحرية محمية وفق خطط وزارة البيئة، لكنها تظل غير كافية لمواجهة الأزمة المتنامية، دون تبني استراتيجية وطنية شاملة لإدارة النفايات ومعالجة مياه الصرف، يبقى مستقبل البحر اللبناني على الساحل مهدداً بانهيار بيئي كامل، مع خسائر صحية واقتصادية واجتماعية يصعب تعويضها على مدى عقود.