لم تكن مياه النيل يومًا مجرد نهر عابر للأرض، بل ظلّت على مدار التاريخ شريان حياة وأداة صراع في آنٍ واحد. واليوم، وبينما يتأرجح السودان بين الغرق والنجاة، يطفو على السطح سؤال أكبر: من المسؤول عن تحويل النهر الخالد إلى مصدر تهديد بدل أن يكون واحة استقرار؟ مصر تتهم إثيوبيا بإدارة أحادية كارثية لسد النهضة، الخرطوم تعيش مأساة الفيضان، والمجتمع الدولي يكتفي بالصمت، فيما الملايين يواجهون مصيرًا مجهولًا على ضفاف النهر.
على ضفاف النيل الأبيض والأزرق، يعيش آلاف السودانيين لحظة انهيار يومية. المياه التي اجتاحت مناطق "العسال، طيبة الحسناب، الشقيلاب والكلاكلات" اخترقت الحواجز الترابية، شقت طريقها إلى المنازل، وأغرقت الحقول. سكان محليون يروون قصصًا عن منازل انهارت في ساعات، وعن أسر أُجبرت على النزوح تاركة وراءها ممتلكاتها، فيما يواجه المزارعون خسائر فادحة في المحاصيل.
صور متداولة على منصات التواصل الاجتماعي تُظهر مشاهد مأساوية: أطفال يخوضون المياه حتى الركب، ونساء يحملن ما استطعن إنقاذه من أثاث، ورجال يقيمون متاريس بدائية في مواجهة تيار لا يمكن وقفه.
غرف الطوارئ المحلية أعلنت أن النيل الأبيض بلغ مستويات غير مسبوقة، محذرين من أن استمرار التدفقات الحالية سيؤدي إلى غرق مساحات أوسع في غضون أيام.
في القاهرة، لم تتأخر الأصوات الرسمية عن توجيه أصابع الاتهام إلى أديس أبابا. وزير الموارد المائية والري، هاني سويلم، كشف خلال اجتماع حكومي أن ما يحدث في السودان هو نتيجة مباشرة للقرارات الأحادية الإثيوبية في إدارة سد النهضة.
مصر ترى أن إثيوبيا، بقرارها المفاجئ في خفض تصريف المياه من السد عبر إغلاق عدد من بوابات المفيض، تسببت في خلل مائي ضخم انعكس على السودان أولًا. هذا الموقف، وفق القاهرة، يثبت ما كانت تحذر منه منذ سنوات: أن السد الإثيوبي، إذا أُدير بعيدًا عن آلية تنسيق ملزمة، سيصبح أداة تهديد وجودي لدول المصب.
الخبير المصري عباس شراقي أوضح أن السد العالي في أسوان استقبل بالفعل أكثر من 700 مليون متر مكعب من المياه خلال سبتمبر وحده، وأن القاهرة استعدت بدقة لهذا السيناريو. لكن الخطورة تكمن في أن السودان ليس لديه القدرة التخزينية ولا البنية التحتية لمواجهة فيضانات غير متوقعة بهذا الحجم.
كيف وقع الخلل؟
لفهم ما جرى، يجب النظر إلى معادلة المياه القادمة من الهضبة الإثيوبية. في الظروف الطبيعية، يُفتح عدد من بوابات سد النهضة بما يسمح بمرور تدفقات تدريجية إلى السودان. لكن تقارير سودانية ومصرية أكدت أن إثيوبيا أغلقت عدة بوابات في سبتمبر، ما أدى إلى تراكم المياه خلف السد. ومع تزايد الأمطار الموسمية، اضطرت لاحقًا لفتح المفيض بشكل مفاجئ، وهو ما ضاعف حجم الفيضان على السودان.
سد الروصيرص السوداني، بطاقة استيعابية محدودة (600–750 مليون متر مكعب يوميًا)، لم يتحمل هذه الكميات الضخمة لأكثر من عشرة أيام، ما جعل خطر انهياره قائمًا. وفي حال وقوع ذلك، ستكون الكارثة أوسع نطاقًا، نظرًا لموقع السد القريب من الحدود الإثيوبية وكثافة السكان في محيطه.
السودان بين المطرقة والسندان
السودان هو الحلقة الأضعف في معادلة النيل. فمن ناحية، يواجه فيضانات مدمرة تقضي على البنى التحتية الهشة أساسًا. ومن ناحية أخرى، يعاني من شلل سياسي داخلي يجعل من الصعب اتخاذ قرارات استراتيجية في ملف المياه.
وزارة الري السودانية حذّرت مواطنيها رسميًا من البقاء على ضفاف النيل، وأعلنت أن مستويات المياه ستظل مرتفعة طوال الأسبوع، لكن هذه التحذيرات لا تكفي. فالمشكلة أعمق من مجرد تحذير، إنها أزمة إدارة إقليمية تتجاوز قدرات الخرطوم وحدها.
الفيضان الأخير يفتح الباب على خلفية أطول وأعقد: صراع تاريخي بين مصر والسودان وإثيوبيا على مياه النيل. منذ توقيع اتفاقيات 1929 و1959، ظلّت القاهرة تعتبر أن لها الحصة الأكبر من مياه النهر، بينما ترى أديس أبابا أن هذه الاتفاقيات "استعمارية" ولا تلزمها.
مع بناء سد النهضة في 2011، دخل الصراع مرحلة جديدة. فالسد بقدرة تخزينية تفوق 70 مليار متر مكعب أصبح ورقة ضغط جيوسياسية، تلوّح بها إثيوبيا في مواجهة مصر والسودان. ورغم سنوات من التفاوض، لم يُتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، ما جعل كل فيضان وكل موسم أمطار يتحول إلى اختبار خطير لمدى قدرة الدول على التعاون.
لا يمكن فصل الفيضان السوداني عن لعبة أوسع. فإثيوبيا، التي تعاني من صراعات داخلية وضغوط اقتصادية، تستخدم السد كورقة داخلية لتعزيز صورتها القومية. أما مصر، فترى أن أي تهديد لأمنها المائي بمثابة "خط أحمر".
المجتمع الدولي، رغم إدراكه لخطورة الموقف، يتعامل مع الأزمة ببرود. واشنطن والاتحاد الأوروبي يواصلان الدعوة إلى "الحوار"، بينما تكتفي الأمم المتحدة بالتحذير من مخاطر إنسانية. لكن على الأرض، يظل ملايين البشر في السودان ضحايا لهذا "الصراع الصامت".
المشهد الإنساني هو الأكثر إيلامًا. آلاف الأسر شُردت، الأراضي الزراعية جُرفت، المواشي نفقت، وأمراض متعلقة بالمياه الراكدة بدأت تظهر. منظمات الإغاثة تحذر من أن الفيضان قد يتحول إلى أزمة صحية إذا لم يتم التحرك سريعًا.
في الوقت نفسه، يُتهم المجتمع الدولي بالتقصير، إذ لا توجد خطط إغاثة عاجلة بحجم الكارثة. السودانيون يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم في مواجهة غضب النيل وفوضى السياسة.
تكشف فيضانات السودان الأخيرة عن معادلة خطيرة: النيل، الذي لطالما كان سر الحياة، قد يتحول إلى سلاح بيد من يملكون القدرة على التحكم بتدفقه. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل حول إدارة سد النهضة، فإن الكوارث لن تتوقف عند حدود الخرطوم، بل قد تمتد إلى مصر، وتهدد أمنًا إقليميًا هشًا أصلًا.
هذه الأزمة ليست مجرد خلاف فني على بوابات سد أو توقيت تصريف مياه، بل قضية أمن قومي لشعوب بأكملها. وبينما يغرق السودان في مياه الفيضان، تبقى الحقيقة الأوضح: أن غياب التنسيق والتفاهم حوّل النيل من رمز للوحدة إلى خط صدع يهدد استقرار المنطقة بأسرها.
ولعل المأساة التي يعيشها السودانيون اليوم يجب أن تكون جرس إنذار أخير للعالم، أن ترك ملف سد النهضة بلا حل سياسي وقانوني ملزم، ليس فقط تهديدًا لدول المصب، بل قنبلة مائية موقوتة في قلب إفريقيا.