لم يكن المشهد الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض مجرّد عرض سياسي عابر أو استعراض انتخابي محدود، ما طُرح على المنصّة كان إعلانًا عن تحوّل جذري في مقاربة واشنطن وتل أبيب للقضية الفلسطينية، وخصوصًا غزة، التي تحوّلت من ملف مقاومة واحتلال وحصار إلى ملف أمني–إداري تحت وصاية دولية بزعامة البيت الأبيض.
"صفقة غزة".. بين أوهام واشنطن ومطامع تل أبيب
لم تكن غزة يومًا مجرّد شريط ساحلي صغير على البحر المتوسط، بل كانت ولا تزال قلب الصراع العربي – الإسرائيلي، وبوصلة اختبار ميزان القوى في المنطقة، وفي اللحظة الراهنة، تعود غزة لتتصدر العناوين العالمية مجددًا، ليس فقط بفعل الحرب الدموية المتواصلة، بل أيضًا من خلال ما يُسوّق له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحت مسمى "صفقة غزة".
الخطة التي أُعلن عنها في أجواء احتفالية، وحاول الطرفان تصويرها باعتبارها "طريقًا للسلام"، تكشف عند التدقيق أنها ليست سوى إعادة إنتاج لسياسات الوصاية والاستعمار القديم، بل نسخة جديدة من مشروع "صفقة القرن" الذي سبق أن طرحه ترامب في عام 2020، لكن بملامح أكثر وقاحة واندفاعًا نحو فرض "استسلام مشروط" على الفلسطينيين، لا تسوية عادلة أو متكافئة.
هذه "الصفقة" تحمل في جوهرها معادلة واضحة، رهائن مقابل نزع سلاح المقاومة، وإدارة دولية بإشراف أمريكي – إسرائيلي، وتمويل عربي، أي أنها تُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري لتعيد صياغتها كمجرّد أزمة أمنية – إنسانية تحتاج إلى "إدارة" وليس إلى "حل سياسي جذري"، ومن هنا، يصبح من الضروري الغوص في تفاصيل هذه الخطة، قراءة أبعادها، مقارنتها بتاريخ الاستعمار الكلاسيكي، وفهم ما تعنيه على مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والإقليمي والدولي.
في التاريخ السياسي، تتخذ اللحظات المفصلية عادة شكل مؤتمرات دولية كبرى؛ سايكس–بيكو (1916)، مؤتمر سان ريمو (1920)، أو حتى مؤتمر برلين (1885) الذي قسّم القارة الإفريقية بين القوى الاستعمارية.
خطاب ترامب ونتنياهو في 2025 لم يكن بعيدًا عن هذه السوابق، بل جاء كـ"برلين جديدة" تُدار من واشنطن، حيث يُعاد تعريف السيادة الفلسطينية، وتُفرض على غزة وصاية مباشرة بغطاء دولي–عربي.
اللافت أن الخطة لم تُقدَّم كمسار تفاوضي، بل كأمر واقع"سلام بلا أرض، وهدنة بلا سيادة، وإعمار بلا استقلال"، وإذا كانت "صفقة القرن" التي طرحها ترامب في 2020 قد اصطدمت برفض فلسطيني ودولي واسع، فإن النسخة الجديدة في 2025 بُنيت على أنقاض حرب مدمرة أودت بحياة أكثر من 65 ألف فلسطيني، وسط حصار خانق جعل من غزة مساحة مهيأة للتجارب السياسية.
في المشهد، لم يكن الفلسطينيون حاضرين، لم تُذكر دماؤهم، لم يُذكر شهداؤهم، لم يُذكر حصارهم الذي تجاوز العقد والنصف؛ الكلمة المفتاحية الوحيدة كانت "الرهائن الإسرائيليون" الذين تحوّلوا إلى محور الخطة وذريعتها الكبرى، كل ما عدا ذلك بدا تفاصيل ثانوية، تُركت لإدارة "مجلس سلام دولي" يرأسه ترامب نفسه ويُديره توني بلير، في سابقة تجعل رئيسًا أميركيًا سابقًا يعلن وصايته على أرض محتلة لم تُسلَّم لبلاده أصلاً.
السلام مقابل الاستسلام
أعادت خطة ترامب تعريف معادلة "السلام"، لم يعد المقصود سلامًا متبادلاً يقوم على الأرض أو الحقوق أو التفاوض، بل سلام أحادي يفرضه المنتصر على المهزوم، لم يخف ترامب لغته، "لا مفاوضات مع حماس، لا سلطة فلسطينية إلا إذا غيّرت جلدها بالكامل، لا مقاومة ولا سلاح ولا أنفاق، لا إعلام "معادٍ"، ولا مناهج دراسية تُذكّر بفلسطين أو بالقدس أو باللاجئين".
بالمقابل، هناك "إعمار" تموّله دول الخليج ومصر والأردن وتركيا وباكستان وإندونيسيا، تحت رقابة مجلس وصاية دولي.
الرهائن أولاً
المفارقة الأبرز أن الخطة انطلقت من مسألة الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا محتجزين في غزة، لم يُطرح أي حديث عن مصير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولا عن آلاف المفقودين تحت أنقاض الحرب، كل التركيز كان على الخمسين رهينة الذين تحوّلوا إلى مفتاح خطة كاملة تعيد تشكيل غزة.
هذا التركيز ليس تفصيلاً؛ بل يعكس الرؤية الأميركية–الإسرائيلية: "غزة ليست قضية شعب يطالب بالحرية، بل أزمة أمنية يجب حلّها عبر تجريدها من كل أدوات القوة، مقابل إنقاذ الرهائن.
نزع السلاح وتفكيك المقاومة
في صلب الخطة بند واضح "التجريد الكامل لغزة من السلاح"، لا صواريخ، لا أنفاق، لا مصانع؛ الهدف النهائي هو شطب أي إمكانية لعودة المقاومة، واللافت أن ترامب لم يقدّم الأمر كاقتراح، بل كشرط مسبق لأي حديث عن الإعمار.
انتداب جديد.. إدارة دولية بقيادة أميركية
إحدى النقاط الأكثر إثارة للجدل كانت إعلان ترامب أن مجلس سلام دولي سيتولى إدارة غزة، برئاسته المباشرة، هذا يوازي إعلان "انتداب جديد"، لكن الفارق أن الانتداب هذه المرة لا يستند إلى الأمم المتحدة بل إلى البيت الأبيض مباشرة.
توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، عُيّن مديرًا للمجلس، المجلس يضم ممثلين عن "الدول الممولة" (خليجية، عربية، إسلامية)، أما السلطة الفلسطينية قد تُمنح "مقعدًا رمزيًا"، بشرط قبولها الشروط الأميركية والإسرائيلية.
التمويل العربي
الشق المالي كان حاسمًا، دول الخليج مطالبة بتمويل الإعمار، ومصر والأردن وتركيا وباكستان وإندونيسيا شريكة في التمويل والتنفيذ.
التمويل لا يُمنح للفلسطينيين مباشرة، بل يُدار عبر المجلس الدولي، بعبارة أخرى: "المال العربي يُستخدم لتثبيت مشروع أميركي–إسرائيلي، بينما الفلسطينيون يُقصون من أي إدارة أو قرار".
غياب الأفق السياسي
الخطة لم تذكر شيئًا عن دولة فلسطينية أو حل الدولتين أو حتى حكم ذاتي موسع، كل ما قُدم هو "إدارة مؤقتة" قد تنظر في "التطلعات الفلسطينية المستقبلية" بعد سنوات من الالتزام بالشروط الأميركية، هذا يعني أن الخطة لم تطرح حتى "سلامًا ناقصًا"، بل طرحت إدارة استعمارية مقنّعة تضع الفلسطينيين تحت وصاية غير محددة المدى.
من برلين 1885 إلى وصاية ترامب 2025.. الاستعمار يتجدد بوجوه جديدة
في الوعي السياسي العالمي، لم تنقطع يومًا صلة المشاريع الاستعمارية بالمشرق العربي، من سايكس–بيكو 1916 إلى الانتداب البريطاني على فلسطين، كان المنطق واحدًا "تجزئة الأرض، تجريد الشعوب من السيادة، وإدارة مواردهم لحساب القوى الكبرى".
اليوم، ومع خطة ترامب، نرى نسخة جديدة من هذا المنطق، وصاية دولية تُفرض على غزة، بزعامة أميركية وتمويل عربي، تمامًا كما كان الانتداب البريطاني على فلسطين قائمًا بغطاء عصبة الأمم وتمويل رأس المال الغربي.
مؤتمر برلين 1885 النسخة الأصلية
في مؤتمر برلين (1885) جلست القوى الأوروبية الكبرى لتقسيم إفريقيا فيما بينها لم يُدعَ أي إفريقي، ولم يُؤخذ برأي أي شعب محلي، الشعارات كانت "الحضارة، التنمية، منع تجارة العبيد"، لكن الجوهر كان نهب الثروات وتقاسم النفوذ، خطة ترامب–نتنياهو تذكّر بذلك المشهد " القرارات تُتخذ في واشنطن، الفلسطينيون مغيّبون تمامًا"؛
اما الشعارات "إعمار، سلام، استقرار"، بينما الجوهر هو أمن إسرائيل وترسيخ الهيمنة الأميركية.
الانتداب البريطاني على فلسطين
حين دخلت بريطانيا فلسطين عام 1917، لم تقدّم نفسها كقوة احتلال بل كـ"قوة منتدبة" من عصبة الأمم؛ وعد بلفور كان جزءًا من هذه الصيغة: إقامة وطن قومي لليهود، مع وعد غامض بـ"حماية حقوق السكان الأصليين".
اليوم يتكرر المشهد، الانتداب الجديد بقيادة أميركية،
"الوطن القومي" صار إسرائيل نفسها، التي تُمنح الأمن الكامل،"حقوق الفلسطينيين" تُركت غامضة، مؤجلة، مشروطة بـ"الالتزام بالشروط".
الفارق بين الأمس واليوم
رغم التشابه، ثمة فروق مهمة؛ الانتداب البريطاني كان يستند إلى قرار دولي (عصبة الأمم)، أما وصاية ترامب فهي قائمة على إعلان فردي، خارج أي إطار أممي.
في القرن العشرين، كانت القوى الاستعمارية تتحمل تكلفة الإدارة، في وصاية ترامب، العرب أنفسهم يمولون استعمارهم عبر دفع تكلفة إعادة الإعمار.
في السابق، كان الخطاب الاستعماري يعتمد على "تمدين الشعوب"، أما اليوم، فالخطاب يعتمد على "تجريد غزة من السلاح" و"مكافحة الإرهاب".
الاستعمار المالي الجديد
من اللافت أن الخطة الأميركية لم تُحدد مصادر التمويل من الداخل الأميركي، بل ربطت إعادة إعمار غزة بالمال الخليجي والإسلامي، هذه نقطة فارقة؛
بريطانيا كانت تستنزف مستعمراتها ماليًا، لكنها كانت تدير وتستثمر، الولايات المتحدة اليوم تريد أن يدفع العرب المال، بينما تحتكر هي القرار السياسي، هذا يعكس جوهر ما يُعرف بـ"الاستعمار المالي الجديد"، حيث تتحول الدول الغنية بالموارد إلى ممول قسري لمشاريع الهيمنة.
"الوصاية الإنسانية" كغطاء
الخطاب الاستعماري دائمًا يحتاج إلى غطاء أخلاقي، في الماضي كان "تمدين المتوحشين"، اليوم الغطاء هو "إغاثة ضحايا الحرب"، لكن الفارق أن بريطانيا كانت تزعم نشر التعليم والسكك الحديدية؛ ولكن واشنطن تزعم "إعادة إعمار" ما دمّرته الحرب الإسرائيلية نفسها، أي أن واشنطن تعرض علاجًا لجريمة شاركت في صنعها، عبر وصاية تُكرّس الاحتلال.
برلين جديدة؟
خطاب ترامب كان بمثابة مؤتمر برلين جديد، قوى كبرى تجتمع (أميركا وإسرائيل)، قوى إقليمية ممولة (العرب وتركيا وباكستان)، الشعوب الأصلية (الفلسطينيون) غائبة عن الطاولة.
النتيجة: إعادة تقسيم غزة، ليس جغرافيًا هذه المرة، بل سياسيًا واقتصاديًا، بحيث تتحول إلى كيان منزوع السلاح والقرار، يُدار من الخارج.
الاستعمار بوصفه إدارة طويلة الأمد
خطة ترامب لم تُحدّد جدولًا زمنيًا لنهاية الوصاية، في الانتداب البريطاني، كان يُقال إن الهدف "إعداد الشعوب للاستقلال" أما في وصاية ترامب، الهدف هو "الحفاظ على أمن إسرائيل"، وهو هدف بلا سقف زمني، هذا يعني أن غزة قد تبقى لعقود تحت وصاية غير رسمية، مثلما بقيت فلسطين تحت الانتداب حتى النكبة.
منطق "الإصلاح الإجباري"
جزء أساسي من الخطة هو فرض تغيير جذري على المناهج الدراسية والإعلام والخطاب الديني الفلسطيني، هذا يعيد إلى الأذهان سياسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر حين حارب اللغة العربية والتعليم الإسلامي، الهدف ليس فقط السيطرة الأمنية، بل إعادة تشكيل وعي الأجيال الفلسطينية بحيث تُمحى أي فكرة عن المقاومة أو التحرر.
إعادة إنتاج المشروع الصهيوني
إذا تأملنا المسار، نكتشف أن المشروع الصهيوني نفسه وُلد من رحم الاستعمار: بريطانيا أعطت وعد بلفور، وفرنسا ساندت، وأميركا كرّست، خطة ترامب ليست سوى حلقة جديدة، لكنها أكثر فجاجة؛ لم يعد هناك حديث عن "حقوق متساوية" أو "مفاوضات"، بل عن وصاية صريحة تمحو الفلسطينيين كفاعل سياسي.البعد الإقليمي – التمويل العربي ومأزق الدول العربية والإسلامية
المال العربي كسلاح سياسي
منذ إعلان الخطة، كان واضحًا أن الولايات المتحدة لا تنوي تحمّل كلفة إعادة إعمار غزة، رغم أن الحرب التي دمّرت القطاع جرت بدعم عسكري ومالي مباشر منها لإسرائيل، بدلاً من ذلك، جرى تحميل الفاتورة إلى الدول العربية والإسلامية.
دول الخليج مطالبة بتمويل الجزء الأكبر من الخطة، بحكم قدراتها المالية.
مصر والأردن معنيتان بتقديم تسهيلات لوجستية وبشرية، إضافة إلى المشاركة في الترتيبات الأمنية.
تركيا وباكستان وإندونيسيا جرى استدعاؤها رمزيًا لإعطاء غطاء إسلامي أشمل.
بذلك يتحول المال العربي من أداة دعم للشعب الفلسطيني إلى أداة تثبيت للوصاية الأميركية–الإسرائيلية.
من "دعم المقاومة" إلى "تمويل الاستسلام"
التاريخ يذكّرنا أن المال العربي كان، في فترات معينة، شريان حياة للمقاومة الفلسطينية، سواء عبر الدعم الرسمي أو عبر التحويلات الشعبية، اليوم، الخطة تقلب المعادلة؛ المطلوب من العرب أن يمولوا عملية نزع سلاح المقاومة.
هذا التحول يطرح سؤالًا مؤلمًا، هل يُعقل أن تتحوّل ثروات النفط والغاز إلى أداة لتمويل مشروع استسلامي، بينما يُحرم الفلسطيني من تقرير مصيره؟
مأزق السعودية
السعودية تجد نفسها في وضع بالغ الحساسية، من جهة، قدمت نفسها كقوة إسلامية كبرى وحامية لقضية فلسطين، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطًا أميركية هائلة للانخراط في تمويل الخطة، وفي الداخل السعودي، الرأي العام لا يزال حساسًا تجاه التطبيع.
الخطة الأميركية تضع الرياض أمام معضلة؛ إما أن تدفع وتتحمّل كلفة سياسية وشعبية، أو أن ترفض فتُتهم بعرقلة "السلام".
مصر وحدود غزة
مصر لاعب محوري بحكم الجغرافيا، معبر رفح، الأنفاق، الأمن الحدودي، الخطة الأميركية تفترض أن القاهرة ستشارك في ضبط غزة بعد نزع سلاحها، لكن القاهرة تدرك أن ذلك يعني عمليًا، تحمّل مسؤولية أمنية مضاعفة، أو التورط في صدام مباشر مع أي فصيل فلسطيني رافض، أو فقدان ما تبقى من رصيدها الشعبي كداعم للقضية الفلسطينية.
المأزق المصري هنا شديد التعقيد، بين الضغوط الأميركية وحسابات الأمن القومي.
الأردن والوصاية المزدوجة
الأردن بدوره في موقع لا يُحسد عليه، من جهة، له وصاية دينية على المقدسات الإسلامية في القدس، من جهة أخرى، يعتمد اقتصاديًا وأمنيًا بشكل كبير على المساعدات الأميركية والخليجية.
الخطة الأميركية تجعل من عمّان طرفًا في "التمويل والمراقبة"، بما قد يُضعف موقعها كـ"حامٍ للقدس" ويحوّلها إلى جزء من منظومة وصاية على غزة.
تركيا.. بين خطاب الدعم وحدود الواقعية
أنقرة برئاسة رجب طيب أردوغان تبنّت خطابًا داعمًا قويًا لغزة منذ بداية الحرب، وهاجمت بشدة السياسات الإسرائيلية.
لكن في العمق، تركيا ليست في وضع يسمح لها بفرض معادلة مختلفة، فهي تعاني أزمات اقتصادية داخلية وتوترات إقليمية متعددة.
"صفقة غزة" تحاول تحييد الدور التركي تمامًا، عبر وضع الملف تحت إشراف أمريكي – إسرائيلي مباشر، مع إسناد التمويل للعرب.
أردوغان قد يجد نفسه أمام خيارين، الاكتفاء بالتصعيد الخطابي والإغاثة الإنسانية، أو محاولة فرض نفسه كـ"شريك إقليمي" في أي إدارة مستقبلية لغزة. لكن احتمالات القبول بهذا الدور من قبل واشنطن وتل أبيب تبدو ضعيفة للغاية.
الخطة الأميركية تمنح أنقرة فرصة شكلية للوجود، لكنها في الحقيقة تُحاصر دورها ضمن منظومة تمويلية–رقابية لا أكثر.
باكستان وإندونيسيا.. الحضور الرمزي
استدعاء باكستان وإندونيسيا للخطة ليس بريئًا، الهدف إعطاء "طابع إسلامي عالمي"، لكن في الواقع، لا قدرة عملية لهاتين الدولتين على إدارة غزة أو التأثير في معادلة الصراع، وجودهما أقرب إلى ديكور سياسي يُستخدم لتجميل وصاية أميركية–إسرائيلية.
معضلة الشرعية العربية
الدول العربية المشاركة تواجه معضلة جوهرية،
إذا انخرطت في تمويل الخطة، تخسر شرعيتها الشعبية وتبدو وكأنها تتواطأ على تصفية القضية، إذا امتنعت، تواجه ضغوطًا أميركية قاسية وربما تهديدات بالعقوبات أو الابتزاز الأمني.
هذه المعادلة تجعل الخطة الأميركية فخًا إقليميًا بامتياز، واشنطن وتل أبيب تحصدان المكاسب، بينما العرب يدفعون المال والثمن السياسي.
التطبيع كشرط ضمني
الخطة تتقاطع مع مسار التطبيع العربي–الإسرائيلي، فالمطلوب من الدول الممولة ليس فقط دفع المال، بل أيضًا الدخول في علاقات مباشرة مع إسرائيل في إطار "الإعمار" و"المراقبة الأمنية"، هذا يعني أن الخطة تفتح الباب أمام موجة تطبيع جديدة، تُفرض تحت مسمى "المسؤولية المشتركة".
من الفخ المالي إلى الفخ الاستراتيجي
النتيجة النهائية أن الدول العربية والإسلامية قد تجد نفسها في وضع غير مسبوق، تموّل إعادة إعمار غزة، لكنها تُقصى عن القرار السياسي، وتتحمّل أمام شعوبها مسؤولية المشاركة في "استسلام تاريخي".
هذا الوضع قد يُشعل توترات داخلية خطيرة، إذ يدرك الرأي العام العربي أن الأموال تُصرف على مشاريع وصاية بدلاً من أن تُوظّف لدعم المقاومة أو حتى لتخفيف أزمات الفقر في الداخل.
خطة ترامب–نتنياهو لعام 2025، المعروفة إعلاميًا بـ"صفقة غزة"، تمثل تحولًا جذريًا في طبيعة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لكنها في الجوهر ليست إلا إعادة إنتاج للاستعمار القديم بوجوه حديثة، حيث تُفرض وصاية أميركية–إسرائيلية مباشرة على غزة، وتصبح الإدارة العربية والتمويل العربي مجرد أدوات لتثبيت هذه الوصاية، وليس لتحقيق أي حل سياسي حقيقي. هذه الخطة لا تهدف إلى السلام، بل إلى إدارة الفلسطينيين ككيان ضعيف، بلا سلاح، بلا قرار، وبلا قدرة على التأثير في مصيرهم.
الفلسطينيون، سواء في غزة أو في أماكن الشتات، غائبون كليًا عن الطاولة، وأصبحت حياتهم ومصيرهم رهينة لشروط أميركية–إسرائيلية تُدار من واشنطن، بينما الرهائن الإسرائيليون يُستغلون ذريعة لإعادة تشكيل الواقع على الأرض. أما التمويل العربي، فهو يحمل بعدًا استراتيجيًا مزدوجًا: فهو يضمن مكاسب سياسية للأطراف الأميركية والإسرائيلية، لكنه يضع الدول الممولة في مأزق داخلي وخارجي، بين دعم مشروع يخالف الشعور الشعبي ومواجهة ضغوط واشنطن.
المفارقة الأكثر خطورة أن الوصاية الأميركية على غزة تُدار تحت غطاء "إعمار وإنسانية"، لكنها في الواقع تشكّل نسخة حديثة من الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث الأمن الإسرائيلي ومصالح القوى الكبرى هو الهدف الأسمى، بينما حقوق الفلسطينيين، واستقلالهم، ومشروع دولتهم المستقبلية، تُترك مجهولة ومرهونة بالشروط الخارجية. هذا الاستغلال المالي والسياسي للقوى العربية والإسلامية، يكرّس ما يمكن وصفه بـ"الاستعمار المالي الجديد"، حيث يُموّل العرب إعادة إنتاج الاحتلال، بينما يظل الفلسطينيون بلا قرار سياسي، وأرضهم تحت سيطرة مشروطة.
على المستوى الإقليمي، تكشف الخطة عن فخ استراتيجي كبير: الدول العربية والإسلامية يُطلب منها أن تكون طرفًا في تمويل وإدارة المشروع، لكنها مقصاة عن أي قرار سياسي، بينما واشنطن وتل أبيب يضمنان مصالحهما الاستراتيجية، ويكرّسان الهيمنة الإقليمية. من مصر إلى الأردن، ومن تركيا إلى دول الخليج، كل الدول أمام اختبار صعب بين الالتزام بالضغوط الأميركية–الإسرائيلية أو الحفاظ على الشرعية الشعبية والدور التاريخي في دعم القضية الفلسطينية.
في هذا السياق، تتحول غزة إلى "مختبر سياسي" لإدارة الصراع وفق مصالح القوى الكبرى، بعيدًا عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، ومع استمرار الوصاية بلا جدول زمني واضح، يبقى الفلسطينيون رهائن القرن الجديد، حيث تُمحى آمالهم في المقاومة، ويُعاد تشكيل وعي الأجيال لتقبل واقعًا بلا سيادة. خطة ترامب–نتنياهو لا تمثل نهاية الصراع، بل إعادة تدويره وفق قواعد جديدة تُكرّس الهيمنة، وتحوّل حقوق الفلسطينيين إلى مجرد حبر على ورق، فيما تصبح الأموال العربية أداة لتثبيت مشروع استسلام تاريخي.