لطالما اعتبرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الحدود الشرقية مع الأردن «جبهة هادئة» نسبياً مقارنة بجبهات أخرى. لكن سلسلة أحداث متتابعة — من هجوم معبر اللنبي في 8 سبتمبر/أيلول 2024 مروراً بتكثيف المناورات المفاجئة عام 2025 وتشكيل وحدات جديدة لحماية وادي الأردن — قلبت هذه القناعة. اليوم، الحدود الشرقية تحولت من عنصر ثانوي في التفكير الأمني إلى محور قلق استراتيجي بسبب مزيج من هشاشة لوجستية، تغيرات سياسية إقليمية، وقدرة جهات فاعلة مختلفة على استغلال فجوات الوجود الأمني.
المشهد الزمني — خط زمني موجز للأحداث المحورية
1. 8 سبتمبر 2024 — هجوم معبر اللنبي (Allenby/King Hussein): سائق شاحنة أطلق النار قرب المعبر وأسفر عن سقوط قتلى، ما أثار انتباه السلطات الإسرائيلية والأردنية لاحقاً.
2. يونيو 2025 — تشكيل الفرقة 96 (فرقة جلعاد): وحدة جديدة تم تسريع تشكيلها لتعزيز الحضور العسكري شرقي البلاد.
3. 10 أغسطس 2025 — مناورة مفاجئة متعددة الجبهات: اختبار لسيناريوهات تسلل وهجوم بري عبر الحدود الشرقية، أبرزت صعوبات في نقل قوات كبيرة والتنسيق في الـ90 دقيقة الأولى.
4. سبتمبر 2025 — تصاعد إجراءات على المعابر وإغلاقات مؤقتة حسب تطورات أمنية جديدة.
ماذا كشف التمرين المفاجئ وما الذي لم يُكشف؟
التمرين المفاجئ صُمم لقياس قدرة الجهاز العسكري على التعامل مع هجوم متزامن من اتجاهات متعددة — بما في ذلك غزو بري مفترض من الأردن. النتائج العملية للتمرين كشفت نقاط ضعف محددة:
الزمن الحرج (الـ90 دقيقة الأولى): قدرة القيادة والضباط المناوبين على اتخاذ قرارات متزامنة ونشر قوات رد سريع كانت محدودة، خصوصاً عند الحاجة لتحريك تشكيلات ثقيلة بين محاور متباعدة.
نقل التعزيزات: صعوبات لوجستية في نقل وحدات احتياطية بكميات كافية إلى نقاط التماس المتعددة، خصوصاً لو تزامنت هجمات في مواقع متفرقة.
التنسيق بين الأجهزة: الحاجة لربط أوثق بين الجيش، الشرطة، أجهزة الاستخبارات والسلطات المحلية — لأن الفاعلين غير النظاميين قد يستهدفون أهداف مدنية أو اقتصادية لخلق إرباك استراتيجي.
الاستنتاج هنا صارح: التمارين أثبتت أن الوجود المادي من بوابات مراقبة وسياج تقني هو أمر ضروري لكنه غير كافٍ لحماية شريط حدودي طويل ومعقد. التحدي الحقيقي يكمن في مرونة الانتشار والقدرة على اتخاذ قرار صحيح وسريع تحت ضغط المعلومات الجزئية.
البُنية التقنية مقابل العامل البشري — تداخل هشّ
إسرائيل استثمرت خلال العقود الأخيرة بكثافة في أنظمة تقنية: كاميرات متقدمة، حساسات، طائرات مسيرة، ومراكز قيادة رقمية. هذه العناصر حسّنت من القدرة على المراقبة لكن أنظمة الاعتماد التام على التقنية تواجه مشكلتين رئيسيتين:
1. التشويش واختراق الأنظمة: في بيئة حرب معلومات وتداخل إلكتروني محتمل، يمكن للتقنية أن تُصبح عُرضة للشلل أو لتشويش مؤقت يقلص فعاليتها.
2. نقص الموارد البشرية المؤهلة والاحتياطي المنظم: وجود الكادرات المدربة واحتياطيٍ فاعل قادر على الانتشار السريع مهم بقدر أهمية التقنية نفسها. استنزاف الجنود عبر جبهات متعددة واستنفاد الاحتياط يقلّصان قدرة المنظومة على الاستجابة.
النتيجة: مزيج من تقنيات متقدمة لكن قدرة بشرية محدودة تحت ضغط متعدد الجبهات يؤدي إلى تراجع في مستوى الاستجابة الواقعية.
البصمة البشرية: الدور المتزايد للمستوطنات والوحدات الإقليمية
المستوطنات على طول وادي الأردن لا تزال تشكّل خط دفاع إضافي من خلال وحدات محلية واحتياطية. هذه الوحدات تؤمن رقابة وتتبّعاً سريعاً في محيطها، لكنها:
ليست بديلًا عن قوة نظامية متكاملة.
قد تواجه مشكلة شرعية وسياسية عند زيادة توتر العلاقات مع الأردن أو المجتمع الدولي إذا ما تدهورت الأوضاع وأدت لمواجهات متزايدة.
الاعتماد على المستوطنات يضع عبئاً إنسانياً وأمنياً كبيراً على السكان المحليين ويحولهم من مدنيين إلى عناصر واقعية في دائرة الاستهداف والتهديد.
ماذا يعني ذلك للأردن؟ — فجوة بين التعاون الرسمي وخطر التفجّر الشعبي
العلاقة الأمنية بين الأردن وإسرائيل تستند إلى اتفاقات رسمية وتنسيق استخباري متقطع. لكن:
وقوع هجمات من جنسيات أردنية أو استخدام معابر عبر الأردن من قبل منفذين فرديين يزيد من حساسية العلاقة ويضع عمّان أمام ضغوط داخلية متصاعدة.
فقدان السيطرة على منفذ أو تغاضي استخباري محلي قد يؤثر على الاستقرار الداخلي الأردني ويقود إلى أزمة ثقة مع الشريك الإسرائيلي.
لذا فإن أي تصاعد على الحدود الشرقية يحمل تكلفة سياسية لأردن رافضة لاحتمال تحول المواجهة إلى أزمة تتطلب إغلاق معابر أو قيود اقتصادية.
تدابير إسرائيلية معلنة ومخططات مستقبلية
تشكيل الفرقة 96 (فرقة «جلعاد») والعمل على جعلها قوة ردّ إقليمي بسرعة عالية على طول وادي الأردن. هذه الخطوة تهدف لتعويض فجوات الجاهزية التقليدية.
مشاريع سياج أمني تقني: خطط لبناء بنى تحتية مراقبة على طول مئات الكيلومترات تشمل كاميرات، حساسات وحواجز، لكن تطبيقها يستغرق وقتاً وتكلفةً مالية وبشرية ضخمة.
قيود مؤقتة على الحركة والتشديد على المعابر: تفتيش أعمق، فرض قيود مؤقتة على الشاحنات والقوافل، وتكثيف الفحوصات الأمنية والتحقق من هوية السائقين والبضائع.
سيناريوهات مستقبلية محتملة (ثلاثة سيناريوهات رئيسية)
1. السيناريو الأدنى: استمرار تنامي الإجراءات الوقائية وتراجع الهجمات الانفصالية. في هذا السيناريو تُعزز إسرائيل مراقبتها وتستمر التنسيقات الاستخبارية مع الأردن، وتبقى الحوادث متفرقة وليست استراتيجية.
2. السيناريو المتوسط: محاولات تكرار هجمات عبر معابر واستغلال فجوات لوجستية. يؤدي ذلك إلى إغلاقات متكررة، توترات دبلوماسية مؤقتة، ورفع حالة التأهب العسكري والاقتصادي.
3. السيناريو الأعلى: تزامن هجمات متعددة من جهات مختلفة (شبه دولة، جماعات مسلحة، عملاء مستقلون) تؤدي لردّ عسكري إقليمي موسّع. هذا السيناريو سيضع إسرائيل أمام اختبار استراتيجي حقيقي في إدارة مواردها واحتياطها، وقد يؤدي إلى توتر خطير في العلاقة مع الأردن والمنطقة.
تداعيات إنسانية وسياسية — من غزة إلى عمان
الضغط الأمني على الحدود الشرقية لا ينفصل عن الدينامية الأكبر في المنطقة: استمرار القتال في غزة، موجات اللاجئين المحتملة، وضغوط اقتصادية وسياسية على الأردن. في غضون ذلك، يدفع المدنيون في المناطق المتأثرة تكلفة مباشرة وغير مباشرة: قيود على الحركة، تعطّل سلاسل التوريد، وتعاظم الشعور بعدم الأمان.
عملية قصيرة ومتوسطة الأمد للاحتلال
1. إعادة هيكلة خطط الاستدعاء والانتشار: وضع نماذج نشر أسرع على مستوى البلوكات مع مخزون لوجستي متحرك، وتقليل الاعتماد على محاور محددة.
2. تعزيز المنظومة البشرية: زيادة دور الاحتياط من خلال تدريبات ميدانية متكررة وتحسين جاهزية الضباط المناوبين للقرارات خلال الـ90 دقيقة الأولى.
3. مرونة تقنية: اعتماد أنظمة احتياطية للتشويش الإلكتروني وإجراءات تشغيلية بديلة عند فقدان الربط الرقمي.
4. إعادة تفعيل آليات التنسيق مع الأردن: تعزيز قنوات التنسيق الأمنية والدبلوماسية لمنع سوء التفاهم، مع آليات تحقيق مشتركة للحوادث العابرة للحدود.
5. استراتيجية «الشرعية المحلية»: تقليل الاعتماد المطلَق على وحدات المستوطنين كذراع أمني وحماية المدنيين عبر برامج دعم وحماية واضحة لمنع تحويلهم إلى خط تماس مستهدف.
حدود ليست مجرد سياج — إنها اختبار للاستدامة الاستراتيجية
الحدود الشرقية تحولت من «خط دفاع ثانوي» إلى مقياس حقيقي لقدرة الاحتلال على إدارة مواردها العسكرية، وتحويل التكنولوجيا إلى أداة فعّالة في مواجهة تهديدات متزايدة التعقيد. تجارب 2024–2025 فرضت رؤية جديدة: الأمن لا يُبنى على الأسلاك والحساسات وحدها، بل على التوازن الديناميكي بين العنصر البشري، اللوجستيات المرنة، والتنسيق السياسي الإقليمي. في غياب ذلك، ستبقى الحدود بوابة للاهتزازات الإقليمية، وتذكيراً دائماً بأن العتاد وحده لا يحسم المعركة.