تحولت المناهج الدراسية التي فرضتها “الإدارة الذاتية”، الذراع الحوكمية لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، إلى ساحة صراع جديدة في مناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا، وتحديدًا في ريف دير الزور. هذه المناهج لم تعد مجرد أدوات تعليمية، بل باتت رموزًا لهوية سياسية وثقافية، فبين سلطة تحاول فرض هويتها، ومجتمع محلي يتمسك بموروثه، تظهر خطوط التوتر بشكل واضح.
البعض من الأهالي في مناطق محددة قبل هذه المناهج كأمر واقع، لرغبتهم في استمرار التعليم، بينما رفضها آخرون رفضًا قاطعًا، معتبرين أن هذه المناهج تمثل تهديدًا مباشرًا لهويتهم العربية والإسلامية. الانقسام في الرأي ليس مجرد خلاف تعليمي، بل يعكس صراعًا عميقًا على الثقافة والهوية ومستقبل الأجيال القادمة في المنطقة.
قبول حذر في بعض المدن
في مدينة هجين، التابعة إداريًا لمنطقة البوكمال، سارت عملية توزيع الكتب المدرسية بسلاسة، وقوبلت المناهج الجديدة بقبول نسبي دون معارضة علنية من المجمع التربوي التابع لـ”الإدارة الذاتية”.
ويشير المعلمون في هجين إلى أن هذا القبول لا يعكس اقتناعًا كاملًا بالمحتوى، بل هو نتيجة عدة عوامل تجعل مواجهة المناهج محفوفة بالمخاطر. المنطقة تعد مركزًا إداريًا وعسكريًا رئيسيًا، ما يجعل وجود الإدارة الذاتية أمرًا واقعًا لا يمكن تجاوزه بسهولة.
القبول هنا ليس إشارة إلى رضا كامل، بل اختيار عملي لضمان استمرار الحياة اليومية وتأمين الحد الأدنى من التعليم للأطفال، بدلًا من الانخراط في مواجهة قد تكون نتائجها وخيمة على مستوى المجتمع.
رفض قاطع في ريف دير الزور
على عكس هجين، شهدت بلدة السوسة احتجاجات قوية من الأهالي والمعلمين، الذين رفضوا المنهاج لأسباب متعددة. أبرز هذه الأسباب تتعلق بضعف محتوى المرحلة الابتدائية، وإدراج مواد للمرحلة الإعدادية تتناول فلسفة القائد السابق لحزب كردي، حرية المرأة، ومقارنات دينية مثيرة للجدل بين مؤسس الديانة البوذية والنبي محمد.
هذا المحتوى، بحسب المعلمين والأهالي، لا يعكس قيمهم الدينية والثقافية، وهو ما دفع بعضهم إلى حرق الكتب كرسالة احتجاجية تؤكد رفضهم لهذه المناهج. هذا الرفض لم يقتصر على الشكوى اللفظية، بل تحول إلى فعل مباشر، يعكس عمق الاستياء والخوف من التأثير على الهوية.
تهديد الهوية والثقافة
يرى المعلمون في ريف دير الزور أن المناهج التي وضعتها الإدارة الذاتية بعيدة عن القيم المحلية، إذ تتضمن مواد عن “تاريخ الشعوب” و”الفكر الديمقراطي”، بطريقة لا تتوافق مع الهوية العربية والإسلامية للسكان.
الأهالي يخشون أن هذه المناهج تهدف إلى طمس الهوية وخلق جيل منفصل عن جذوره الثقافية والدينية. كتب المدرسة التي وصلت إلى بعض المناطق لا تعكس تاريخ المنطقة أو قيمها، مما دفع الأهالي للقيام بردود فعل قوية، بينها حرق الكتب والاعتراضات العلنية في المدارس والمجالس المحلية.
مخاوف مستقبلية من عدم الاعتراف بالشهادات
إضافة إلى مسألة الهوية، يخشى الأهالي من تأثير هذه المناهج على مستقبل أبنائهم التعليمي والأكاديمي. الشهادات الصادرة عن الإدارة الذاتية لا تحظى باعتراف رسمي محلي أو دولي، ما قد يعيق الطلاب في الالتحاق بالجامعات أو الحصول على فرص عمل مستقبلية.
الأهالي يرون أن المناهج الحالية أصبحت عبئًا أكثر منها وسيلة تعليمية، لأنها لا تفتح أمام الطلاب أبواب التعليم أو العمل خارج مناطق سيطرة الإدارة، ما يزيد القلق على مستقبل الأجيال القادمة.
خلفية تاريخية للمناهج والتعليم في المنطقة
منذ العام 2020، فرضت الإدارة الذاتية منهاجًا تعليميًا موحدًا في مناطق سيطرتها بدير الزور والحسكة والرقة وحلب. هذا المنهاج استبدل المناهج الحكومية السورية، وركز على تعليم اللغة الكردية في بعض المواد، بالإضافة إلى مواد تتعلق بـ”الفكر الديمقراطي” وفلسفات مختلفة.
لم يقبل جميع السكان بهذه التغييرات، خاصة في المناطق العربية، حيث اعتبرت هذه المناهج محاولة لفرض هوية جديدة على السكان وطمس الثقافة المحلية. على مدار السنوات الماضية، شهدت المنطقة احتجاجات مستمرة على سير العملية التعليمية، تضمنت تجميد المدارس ورفض توزيع الكتب، وأحيانًا حرقها، كرمز للاحتجاج.
صراع يتجاوز التعليم
قضية المناهج في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا تمثل نقطة ارتكاز لصراع أوسع على الهوية والسلطة. الإدارة تسعى لترسيخ نفوذها عبر المؤسسات التعليمية، بينما يرى الأهالي أن هذه المناهج تشكل تهديدًا مباشرًا لهويتهم الثقافية.
مع بداية العام الدراسي الحالي، أصدرت الإدارة تعليمات بعدم تدريس منهاج الحكومة السورية في أي مؤسسة تعليمية ضمن مناطق سيطرتها، وفرضت منهاجها الموحد. في الوقت ذاته، يبقى المجتمع المحلي ممزقًا بين القبول الحذر والرفض القاطع، وهو ما يعكس عمق الأزمة ويشير إلى أن التعليم أصبح ساحة نزاع سياسي وثقافي أكثر من كونه وسيلة لنقل المعرفة.
آثار محتملة على الأجيال القادمة
الأجيال الجديدة في دير الزور تواجه واقعًا تعليميًا مزدوجًا: من جهة، منهاج لا يعكس هويتهم الثقافية والدينية؛ ومن جهة أخرى، مخاوف عملية من عدم الاعتراف بالشهادات رسميًا. هذا المزيج يهدد تماسك المجتمع المحلي على المدى الطويل، ويخلق فجوة بين الجيل الجديد وجذوره، ما قد يؤدي إلى فقدان القيم الثقافية التقليدية وانتقال الصراع من التعليم إلى الهوية بشكل أوسع.
تحركات الأهالي والمعلمين
على الرغم من القيود، يستمر الأهالي والمعلمون في تنظيم احتجاجات سلمية، حرق الكتب، ورفض تدريس المنهاج، كوسيلة للتعبير عن رفضهم. هذه التحركات تعكس شعور المجتمع بأن العملية التعليمية ليست مجرد تعليم، بل ساحة صراع سياسي وثقافي حقيقية.