عاد ملف المفاوضات السورية – الإسرائيلية إلى واجهة المشهد الإقليمي والدولي مع زيارة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى نيويورك، وسط ترقب واسع لما يمكن أن تحمله من نتائج حاسمة بشأن اتفاق أمني جديد ترعاه الولايات المتحدة.
الزيارة جاءت بعد أشهر من الجولات المكوكية التي رعاها المبعوث الأمريكي توم براك في عواصم عدة، من باكو إلى باريس ولندن، بهدف التوصل إلى تفاهم أمني يفتح الباب أمام تهدئة طويلة الأمد في الجنوب السوري.
الشرع أكد خلال قمة "كونكورديا" في 22 أيلول أن بلاده تسعى للوصول إلى اتفاق يشبه اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، قائلاً: "نحن متجهون نحو التهدئة وأن تعطى سوريا فرصة للبناء، وإذا نجحت التهدئة وكان هناك التزام من قبل إسرائيل بما يتم الاتفاق عليه فربما تتطور المفاوضات".
لكن ما بدا أنه مسار واعد، اصطدم من جديد بعقدة قديمة – جديدة: الممر الإنساني إلى السويداء.
الممر الإنساني.. بين المساعدات والسيادة
طرحت فكرة الممر الإنساني للمرة الأولى في آب الماضي عبر تقارير أمريكية، تحدثت عن مسعى إدارة ترامب لتمرير مساعدات مباشرة إلى الجنوب السوري من الجانب الإسرائيلي.
وخلال الجولات التفاوضية، تمسكت إسرائيل بإعادة هذا الشرط إلى الطاولة، ما أوقف الإعلان عن أي اتفاق في اللحظة الأخيرة، وفق مصادر مطلعة على المحادثات.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أيلول أن إسرائيل بدأت مفاوضات جدية مع سوريا، مؤكدًا أنه يمكن التوصل إلى اتفاق يحترم السيادة السورية ويحمي الأمن الإسرائيلي، مع تركيز خاص على "حماية الدروز". لكنه شدد أيضًا على أن إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين "بينما يُذبح الدروز في سوريا".
هذا الطرح أثار رفضًا قاطعًا من الجانب السوري، الذي اعتبر أن الممر الإنساني ليس سوى مدخل لتثبيت نفوذ إسرائيلي مباشر في منطقة حساسة، وتهديد لوحدة البلاد.
موقف دمشق: أزمة داخلية لا ورقة تفاوض
يرى باحثون أن الحكومة السورية نظرت إلى أحداث السويداء باعتبارها قضية داخلية يمكن معالجتها عبر الحوار المحلي، وليس عبر فتح الباب أمام تدخل خارجي. وبالنسبة لدمشق، فإن السويداء جزء لا يتجزأ من البلاد، ويجب أن تبقى تحت مظلة الدولة.
ويشير مراقبون إلى أن لدى الحكومة أوراق ضغط عديدة، منها ملف "الكبتاغون" الذي يشكل عاملًا حساسًا داخليًا وخارجيًا، ويتيح إمكانية فرض معادلات جديدة على الأرض.
من هذا المنطلق، يُفهم رفض دمشق لمطلب الممر الإنساني باعتباره ليس فقط مسألة سيادة، بل أيضًا دفاعًا عن استقرار الجنوب السوري ومنع تحوله إلى ساحة نفوذ خارجي دائم.
إسرائيل وأهداف أبعد من "الممر"
رغم الجدل المثار حول الممر الإنساني، يرى محللون سياسيون أن السبب الحقيقي لتعثر المفاوضات أعمق من ذلك. فإسرائيل تسعى، بحسب هؤلاء، إلى استخدام الأجواء السورية لشن عمليات عسكرية ضد أهداف إيرانية وميليشيات مرتبطة بها، وهو مطلب لا يمكن أن توافق عليه دمشق.
آخرون يضيفون أن إسرائيل تستخدم الممر كورقة تفاوضية ضمن مجموعة من المطالب التي تهدف إلى تكريس مكاسب استراتيجية داخل سوريا، وليس مجرد ممر مساعدات.
وتؤكد تقارير أن إسرائيل قدمت بالفعل مقترحًا مفصلًا لاتفاق أمني جديد يشمل خريطة لمناطق منزوعة السلاح تمتد من دمشق إلى الحدود، مع فرض منطقة حظر جوي، دون أن يترتب على الجانب الإسرائيلي أي التزام مماثل.
باحثون وصفوا هذه المطالب بأنها "متطرفة"، لأنها عمليًا تعني تقليص سيادة سوريا بشكل كبير، وتكرس حرية حركة كاملة لإسرائيل.
الدور الأمريكي: وسيط أم ضاغط؟
لعبت الولايات المتحدة دور الوسيط المباشر، عبر مبعوثها توم براك، الذي قاد جولات باريس ولندن، وجمع مسؤولين سوريين وإسرائيليين حول طاولة واحدة.
لكن الموقف الأمريكي، وفق خبراء، لم يكن متوازنًا. فبينما تضغط واشنطن على دمشق للاستمرار في التفاوض، فإنها لم تمارس ضغطًا مماثلًا على إسرائيل للتراجع عن شروطها المشددة.
ويشير محللون إلى أن الرئيس ترامب يسعى لتحقيق إنجاز دبلوماسي بارز قبيل انتهاء ولايته، معتبرًا أن التوصل إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل قد يمنحه جائزة نوبل للسلام. غير أن غياب الضمانات الأمريكية الجدية للجم إسرائيل يضعف فرص نجاح أي اتفاق.
المستقبل: اتفاق مؤجل
رغم كل العثرات، يتفق مراقبون على أن المفاوضات لن تتوقف. فدمشق ترى أن التوصل إلى تهدئة مع إسرائيل قد يعيد الاستقرار إلى الجنوب السوري، حتى وإن كان اتفاق "ضرورة" أكثر منه خيارًا استراتيجيًا.
لكن الشكوك تحيط بمدى التزام إسرائيل. فالتجارب السابقة أظهرت أن تل أبيب لا تتردد في خرق الاتفاقات إذا وجدت فرصة لتوسيع نفوذها أو تحقيق مكاسب عسكرية.
ويرى محللون أن المفاوضات ستبقى رهينة لموازين القوى، وللمدى الذي تستطيع فيه الولايات المتحدة إقناع الطرفين بالتنازل عن بعض شروطهما. في المقابل، يعتقد آخرون أن غياب أي مؤشرات على حسن نوايا إسرائيل، واستمرارها في دعم فواعل مسلحة جنوب سوريا، يجعل التوصل إلى تفاهمات أمنية في المدى القريب أمرًا غير مرجح.
المفاوضات بين سوريا وإسرائيل تتأرجح بين فرص التهدئة ومخاطر الانفجار. سوريا تبحث عن استقرار يحفظ سيادتها، بينما تحاول إسرائيل فرض شروط توسعية تحت غطاء "إنساني" أو "أمني". وبين ضغوط أمريكية غير متوازنة وحسابات إسرائيل الداخلية، يبدو أن الاتفاق الأمني سيبقى مؤجلًا إلى أجل غير مسمى، فيما يظل الجنوب السوري مسرحًا للتجاذبات الإقليمية والدولية.