تعيش مدينة حلب منذ أسابيع على وقع توتر متجدد في حيي الأشرفية والشيخ مقصود شمالي المدينة، وهما منطقتان ذات غالبية كردية، تخضعان لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في وقت تتمركز القوات الحكومية في محيطهما. ورغم توقيع عدة اتفاقات خلال العام الجاري تقضي بانسحاب “قسد” ودمجها ضمن مؤسسات الدولة، إلا أن التنفيذ بقي جزئيًا، لتبقى القضية مفتوحة على احتمالات عدة.
بداية التوتر.. حادثة أشعلت الميدان
في 22 أيلول، تصاعدت حدة التوتر إثر استهداف سيارة عسكرية سورية من نوع “بيك أب”، ما أدى إلى مقتل عنصر وإصابة أربعة آخرين وقعوا بالأسر. هذه الحادثة كانت كافية لإشعال استنفار أمني واسع ودفع الحكومة السورية لإرسال أرتال عسكرية مدعومة بمدرعات إلى محيط الحيين لتعزيز نقاطها.
من جهتها، أعلنت “قسد” أنها صدّت هجومًا من مجموعات تابعة للحكومة على إحدى نقاطها الأمنية، مؤكدة أنها أسقطت طائرة مسيّرة وأصابت ثلاثة مهاجمين. وبين الروايتين، بدا المشهد انعكاسًا لحالة هشاشة أمنية لا تزال ترافق العلاقة بين الطرفين.
اتهامات متبادلة.. من الاستفزاز إلى الاعتقال
الجيش السوري يعتبر أن “قسد” تتعمد خرق اتفاقات سابقة عبر تحركات ميدانية “استفزازية”، تشمل اعتقالات بحق أفراد على صلة بالحكومة أو بفصائل المعارضة السابقة، إلى جانب رفضها الانسحاب الكامل من الأشرفية والشيخ مقصود.
في المقابل، ترى “قسد” أن الحشود العسكرية الحكومية عند خطوط التماس تشكل تهديدًا مستمرًا، وتتهم دمشق بمحاولة التهرب من استحقاقات الاتفاق عبر التصعيد الميداني.
أبعاد سياسية متشابكة
المراقبون يربطون بين تصاعد التوتر وزيارة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة، التي حملت بعدًا سياسيًا وإعلاميًا واسعًا. ويرى هؤلاء أن التحركات الأخيرة لـ”قسد” هدفت إلى تعكير أجواء الزيارة والتأثير على نتائجها، خشية أن يقود أي تقارب بين دمشق وواشنطن إلى تراجع أهميتها كحليف رئيسي للأمريكيين.
الصحفي والسياسي عقيل حسين يعتبر أن جناحًا متشددًا داخل “قسد” يخضع لتأثير حزب العمال الكردستاني (PKK)، ولا يرغب في تنفيذ اتفاق 10 آذار أو اتفاق نيسان، لأنه يرى في “روج آفا” خطًا أحمر لا يجوز التنازل عنه. هذا الموقف يستند إلى تصريحات سابقة لعبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للحزب والمعتقل في تركيا، الذي أكد أن “سوريا وروج آفا خط أحمر”.
الاتفاقات المعلّقة.. نصف خطوة إلى الأمام
في 10 آذار الماضي، جرى توقيع اتفاق بين الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، يقضي بدمج القوات الكردية في مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية. ولتكريس هذا المسار، شهد مطلع نيسان اتفاقًا خاصًا بحلب نص على انسحاب القوات العسكرية التابعة لـ”قسد” من الأشرفية والشيخ مقصود، مع بقاء “الأسايش” بصفة أمن داخلي تمهيدًا لضمها لوزارة الداخلية.
نُفّذ جزء من الاتفاق بخروج رتلين يضمان أكثر من 900 عنصر، وتبادل سجناء وموقوفين بين الطرفين، إلا أن البنود الأهم، مثل إزالة السواتر الترابية وردم الخنادق وانسحاب باقي القوات، لم ترَ النور بعد.
ضبط النفس مقابل المماطلة
الحكومة السورية تؤكد التزامها بخيار السلم وضبط النفس، وترى أن أي مواجهة جديدة ستثقل كاهل البلاد سياسيًا وعسكريًا، لذلك تراهن على الضغط الدولي لإجبار “قسد” على الالتزام بالاتفاق.
لكن، وفق محللين، فإن “قسد” تدرك هذا الحرص الحكومي وتستغله كورقة ضغط، مستفيدة من الموقف الأمريكي المتردد الذي يضع مكافحة “داعش” وأمن إسرائيل كأولوية، بعيدًا عن فرض تنفيذ الاتفاقات مع دمشق.
خطر الانفجار
المناوشات التي شهدتها مناطق عدة في ريف حلب ودير الزور خلال الأسابيع الماضية أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين وعسكريين، وسط تبادل للاتهامات. هذا الوضع يرفع احتمالية الانزلاق نحو مواجهة أوسع، خصوصًا إذا استمرت حالة المماطلة من جانب “قسد” والتصعيد الميداني من الطرفين.
الباحث السياسي سمير العبد الله يحذّر من أن استمرار الغموض في الموقف الأمريكي يمنح “قسد” مساحة أكبر للمناورة، وقد يقود إلى سيناريو مشابه لما حدث في السويداء، عبر خلق أزمات متتالية تمهيدًا لفرض نوع من الإدارة الذاتية بحكم الأمر الواقع.
لحظة مفصلية
الرئيس السوري أحمد الشرع شدد في أكثر من مناسبة على أن الخيار الاستراتيجي للدولة هو الحل السلمي وتنفيذ اتفاق 10 آذار باعتباره وثيقة حظيت بقبول محلي وإقليمي ودولي. ويرى أن استثمار هذه اللحظة التاريخية سيعود بالنفع على جميع المكونات السورية، بما فيها المجتمع الكردي، إذا ما تم الالتزام بتنفيذ الاتفاقات.
لكن مع بقاء الأمور معلّقة بين تنفيذ جزئي وتوترات متكررة، تبقى حلب – وبالتحديد حيي الأشرفية والشيخ مقصود – بؤرة اختبار حقيقي لمسار العلاقة بين دمشق و”قسد”، ولإمكانية ترجمة التفاهمات السياسية إلى وقائع ميدانية.