في قلب القدس المحتلة، حيث يختلط التاريخ بالدين والسياسة، يتحول المسجد الأقصى المبارك في كل موسم من أعياد "تشري" اليهودية إلى ساحة مواجهة مفتوحة. لم تعد الساحات مجرد مكان للصلاة والعبادة، بل باتت مسرحًا لطقوس علنية تسعى جماعات "الهيكل" المتطرفة، تحت غطاء رسمي من حكومة نتنياهو اليمينية، إلى تحويلها إلى إعلان سيادة يهودية، على حساب الهوية الإسلامية للمكان.
هذه الأعياد، الممتدة من رأس السنة العبرية في سبتمبر/أيلول وصولًا إلى "ختمة التوراة" في أكتوبر/تشرين الأول، لم تعد مجرد مناسبات دينية، بل تحولت إلى أدوات تعبئة قومية ومشاريع استعمارية ذات أبعاد سياسية وديمغرافية. ومع استمرار حرب الإبادة على غزة منذ "طوفان الأقصى" عام 2023، وجدت إسرائيل في هذه الطقوس فرصة ذهبية لإحداث تغييرات جذرية في القدس تحت ستار الحرب.
الطقوس الدينية كأداة سياسية
يشكل موسم أعياد "تشري" محطة مركزية في الروزنامة الدينية اليهودية، لكنه في السياق الاستيطاني الإسرائيلي أصبح وسيلة لتعزيز السيطرة على القدس. تبدأ السلسلة بعيد رأس السنة (روش هاشناه) حيث يُستخدم "الشوفار" – البوق المصنوع من قرن كبش – في إعلان رمزي عن السيادة اليهودية. هذا النفخ، الذي رافق احتلال سيناء عام 1956 والقدس عام 1967، يتكرر اليوم في باحات الأقصى باعتباره إيذانًا بنهاية "الزمان الإسلامي" وبداية "الزمان اليهودي".
وتتواصل الأعياد مع "أيام التوبة" التي يرتدي فيها المستوطنون "لباس الكهنة الأبيض"، ثم يوم الغفران حيث تُطرح محاولات إدخال طقوس "كفارة الدجاج" قرب الأقصى. يلي ذلك عيد العُرش (سوكوت) حيث تُنصب العرائش وتُقدّم القرابين النباتية داخل البلدة القديمة. وتبلغ الطقوس ذروتها في "ختمة التوراة" حيث يسعى المستوطنون لإدخال اللفائف إلى داخل المسجد، والرقص بها في خطوة رمزية لتكريس "السيادة التوراتية".
بن غفير ورعاية رسمية للتدنيس
ما كان يُمارس سابقًا بشكل فردي أو سري، أصبح اليوم علنيًا ومحميا بقرارات رسمية. ففي مايو/أيار 2024 أصدر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير تعليمات لشرطة الاحتلال بحماية الطقوس التلمودية داخل الأقصى. وفي يوليو/تموز 2025 منح المستوطنين الحق في الرقص والغناء الجماعي في الساحات، محولًا المسجد من مكان عبادة إسلامي إلى "حيز اجتماعي" للمستوطنين.
هذا التحول ينسجم مع خطاب بن غفير الانتخابي الذي وعد بجعل "الهيكل" في قلب المشهد السياسي والديني، ومع رؤية نتنياهو الذي يوظف الملف الديني في القدس كأداة للبقاء السياسي عبر تحالفه مع اليمين الديني المتطرف.
الأرقام تكشف حجم التغيير
تظهر إحصاءات مؤسسة "بيدينو" الاستيطانية أن الأعياد باتت منصات اقتحام جماعية منظمة. ففي 2023 بلغ عدد المقتحمين نحو 50 ألفًا، وفي 2024 بلغ 49 ألفًا رغم انشغال الجيش بحرب غزة، لكن الفارق أن الطقوس اتخذت طابعًا علنيًا وصاخبًا أكثر من أي وقت.
أما في 2025، وقبل بدء موسم الأعياد، فقد وصل العدد إلى أكثر من 54 ألف مقتحم حتى نهاية أغسطس/آب، بينهم 3,527 في يوم واحد خلال ذكرى تدمير الهيكلين، وهو رقم قياسي غير مسبوق. هذه الأرقام تعكس ليس فقط اتساع حجم الاقتحامات، بل تحولها إلى إستراتيجية رسمية مرتبطة بمشروع "التقسيم الزماني والمكاني".
التقسيم الزماني والمكاني.. إعادة إنتاج سيناريو الخليل
تسعى حكومة الاحتلال إلى فرض معادلة جديدة تشبه ما جرى في الحرم الإبراهيمي بالخليل، عبر خطين متوازيين:
التقسيم الزماني: تحديد أوقات خاصة لدخول اليهود للأقصى خلال الأعياد، ومنع المسلمين أو تقييد دخولهم في تلك الفترات.
التقسيم المكاني: تخصيص أجزاء من الساحات – خصوصًا عند باب المغاربة وباب الرحمة – كأماكن عبادة يهودية دائمة.
ويضيف الباحث زياد ابحيص أن الاحتلال تجاوز هذه المرحلة نحو "التأسيس المعنوي للهيكل"، أي فرض الطقوس التلمودية كمدخل رمزي يمهّد للتأسيس المادي لاحقًا، بدعم من القضاء والحكومة.
الأقصى في قلب مشروع التهويد
يرى المحلل السياسي عبد الله العقرباوي أن الأعياد اليهودية تحولت إلى مناسبات قومية تعبّئ مشاعر الهوية اليهودية وتعيد إنتاج الرواية الصهيونية حول "مجد الماضي" في القدس. وبحسبه، فإن حكومة نتنياهو تمنح غطاءً رسميًا لهذه الطقوس في إطار صفقة بقائها السياسي مع أحزاب اليمين المتطرف.
ويضيف أن الهدف النهائي هو جعل حياة الفلسطينيين في القدس مستحيلة عبر سياسة التهويد الممنهج، من هدم المنازل وسحب الهويات وفرض الضرائب، وصولًا إلى تحويل الأقصى إلى ساحة صراع دائم.
التداعيات المستقبلية
في ظل استمرار الحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان وسوريا، وتحالف الغرب في تبرير سياسات الاحتلال، تبدو القدس في قلب معركة "التصفية الشاملة". فالاحتلال يستغل اللحظة التاريخية لفرض واقع جديد يقطع الطريق على أي تسوية مستقبلية.
ويحذر ابحيص من أن المشروع الصهيوني يرى في "التصفية" هدفًا مباشرًا للحرب، وسيستخدم كل الأدوات الدينية والسياسية والعسكرية لفرضه. أما الغرب، ورغم بعض الاعترافات الرمزية بدولة فلسطينية، فإنه يواصل شراكته الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، متجنبًا اتخاذ أي إجراءات فعلية.
خاتمة
ما يجري في ساحات الأقصى خلال أعياد "تشري" ليس مجرد مشاهد عابرة لطقوس دينية، بل هو جزء من مشروع استعماري متكامل يهدف إلى إعادة تشكيل هوية القدس، وإلغاء مركزيتها الإسلامية، وتحويلها إلى ساحة صراع ديني قومي. وفي حين يواصل الاحتلال محاولاته فرض "السيادة التوراتية"، يبقى الأقصى رمزًا لمقاومة مشروع التصفية، وميدانًا يتجسد فيه صراع الإرادات بين الاحتلال وشعب يصرّ على البقاء والتمسك بهويته.