في مشهد غير مسبوق على منصة الأمم المتحدة، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، ليُلقي خطابه أمام الجمعية العامة، لكن القاعة كانت شبه فارغة. انسحبت عشرات الوفود احتجاجًا على سياسات إسرائيل في غزة، حيث تتواصل حرب الإبادة التي تكاد تدخل عامها الثالث، ما يعكس رفضًا دوليًا واسعًا للرواية الإسرائيلية.
نتنياهو حاول تعويض الفراغ بحيل رقمية، إذ وضع رموز "QR" على معاطف أعضاء الوفد المرافق له، طالبًا من الحاضرين مسحها بهواتفهم للحصول على ملفات خاصة بالهجوم الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023. إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في كسر الجمود الدبلوماسي، وظل الحضور الدولي شبه معدوم، في مشهد وصفه الإعلام الإسرائيلي بأنه "بصقة في وجه إسرائيل".
مظاهرات واعتصامات خارج الأمم المتحدة
خارج مقر الأمم المتحدة، شهدت نيويورك مظاهرات حاشدة من آلاف المحتجين من ولايات أميركية عدة، يحملون الأعلام الفلسطينية ولافتات تندد بحرب غزة. كما تظاهر بعض أهالي الجنود الأسرى لدى المقاومة، مطالبين بإيجاد حلول عاجلة لإعادة أبنائهم، بينما كانت الحشود تهتف ضد خطاب نتنياهو واعتبرت حضوره إهانة للضمير الدولي.
خطاب مهلهل ومتلعثم
داخل القاعة، بدا نتنياهو متعبًا ومتلعثمًا، وفق مراقبين إسرائيليين، فقد ركز على إبراز قدرات الجيش الإسرائيلي وسيطرته على هواتف سكان غزة ونشطاء حماس، في خطوة غير مسبوقة لبث خطابه مباشرة عبر تلك الأجهزة، في محاولة لتثبيت روايته. لكن تصريحاته لم تتضمن خطة واضحة لإعادة المخطوفين، ولم تقدم أي رؤية لإنهاء الحرب، ولم تشرح سبب استمرار حماس على الرغم من العمليات العسكرية المتواصلة منذ أكثر من عامين.
رئيس المعارضة يائير لبيد وصف خطاب نتنياهو بأنه "مثقل بالخدع، منهك ومتذمر"، بينما اعتبر الصحفي والمحلل العسكري رون بن يشاي أن هذا الخطاب كان الأسوأ في مسيرة نتنياهو الدولية على مدار عقدين، بسبب التلعثم وضعف السرد.
تجاهل الاعترافات الفلسطينية والدولية
أبرز ما ميز الخطاب هو تجاهل نتنياهو الكامل لكلمات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة، واعترافه بدولة إسرائيل، ما أعطى انطباعًا بأن إسرائيل غير مستعدة للاعتراف بأي إنجاز دبلوماسي فلسطيني، مستمرة في سياستها الأحادية.
حركة حماس، من جانبها، استنكرت دعوات عباس لتسليم سلاح المقاومة، مؤكدة أن السبيل الوحيد لمواجهة الاحتلال هو التوافق على برنامج نضالي شامل، معتبرة أي تراجع عن المقاومة خسارة استراتيجية للشعب الفلسطيني.
الموقف الدولي وردود الفعل
المحللون الدوليون أشاروا إلى أن انسحاب الوفود من القاعة يعكس تراجع الدعم الغربي التقليدي لإسرائيل، كما سجلت المظاهرات في ميدان تايمز سكوير وأماكن أخرى في الولايات المتحدة رفضًا شعبيًا واسعًا لسياسات تل أبيب.
مركز ستراتفور الاستخباراتي الأمريكي لاحظ أن موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، رغم أهميتها الرمزية، لم تؤثر بعد على الأرض، لكنها تعكس تحولًا في المزاج الغربي تجاه إسرائيل، وقد تضع ضغوطًا إضافية على تل أبيب في المستقبل.
السياق العسكري والسياسي
في وقت الخطاب، تواصلت الغارات الإسرائيلية على غزة، بينما يمارس الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضغوطًا سياسية على نتنياهو لإنهاء الحرب، في محاولة لإيجاد صفقة قد تشمل إعادة الرهائن ووقف إطلاق النار. هذا التوازن الهش بين الضغوط الدولية والحرب المستمرة يعكس أزمة إسرائيل العميقة على الصعيدين السياسي والإنساني، ويضع نتنياهو في مواجهة تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة.
يبدو أن خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة سيُسجل في التاريخ كأحد أسوأ خطاباته الدولية، ليس فقط لضعفه وسلاسة إلقائه، بل لأنه كشف هشاشة إسرائيل على الساحة العالمية، وعزلة تل أبيب أمام المجتمع الدولي. وبينما يزداد الاعتراف الدولي بفلسطين وتتوسع موجة الاحتجاجات الشعبية، يبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن إسرائيل من إعادة ترتيب أوراقها، أم أن السياسات الحالية ستدفعها نحو عزلة دبلوماسية واقتصادية أطول وأعمق؟