منذ أكثر من ستة عقود والقضية الفلسطينية تخوض معركة سياسية موازية للمعركة الميدانية، هدفها تثبيت الهوية الوطنية الفلسطينية وإقناع العالم بأن الشعب الذي اقتلع من أرضه يستحق دولة مستقلة ذات سيادة، هذه المسيرة الطويلة لم تكن سهلة، إذ واجهت مقاومة شرسة من دولة الاحتلال وحلفائها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، التي سعت بلا توقف لإجهاض أي خطوة دولية تمنح الفلسطينيين موقعاً قانونياً أو سياسياً متقدماً.
منظمة التحرير وبداية المشوار:
في مايو 1964 انعقد أول مجلس وطني فلسطيني في القدس وأعلن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كان ذلك قبل احتلال الضفة والقدس بثلاث سنوات، لكنه مثل نقلة حقيقية أعادت صياغة هوية الشعب الفلسطيني فبدلا من صورة اللاجئ بلا أرض أصبح للفلسطينيين كيان سياسي معترف به من الدول العربية أولاً ثم من دول أخرى. انتخاب أحمد الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية منح المنظمة شرعية إضافية لتبدأ أولى موجات الاعتراف العربي والدولي.
بالنسبة لإسرائيل مثل الاعتراف بالمنظمة تهديداً خطيرا لأنها بنت سرديتها على الفلسطينيين مجرد مشكلة إنسانية يمكن حلها عبر التوطين في دول الجوار. لكن بروز المنظمة بوصفها ممثلاً شرعيا وحيداً للشعب الفلسطيني أعاد صياغة النقاش على مستوى الأمم المتحدة ومجالس القرار الدولية.
من مراقب في الأمم المتحدة إلى لاعب سياسي:
عام 1974 شكل محطة فاصلة حين منحت الأمم المتحدة المنظمة صفة مراقب غير عضو. هذا القرار لم يكن بروتوكوليا فقط بل أتاح للفلسطينيين المشاركة في النقاشات الدولية وتقديم مقترحات حتى وإن حرموا من التصويت في تلك اللحظة بدأت إسرائيل تدرك أن القضية الفلسطينية تتحول من ملف إنساني إلى قضية تحرر وطني تحظى بغطاء دولي.
برنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني في العام نفسه فتح الباب أمام إنشاء سلطة وطنية على أي جزء محرر من فلسطين، بينما اعتبره البعض تنازلاً إلا أنه مكن المنظمة من توسيع شبكة الاعترافات خاصة في الكتلة الشرقية حيث افتتحت مكاتب تمثيل في عواصم عديدة مثل برلين الشرقية.
كما حصلت على دعم سياسي وعسكري من الصين والاتحاد السوفييتي وهو ما أثار ذعر الاحتلال الذي كان يواجه أصلا صعود حركات التحرر العالمية.
الانتفاضة الأولى وتغيير المعادلة:
خروج قوات منظمة التحرير من لبنان عام 1982 وتراجع العمل الفدائي أضعف الحضور الفلسطيني في الساحة الدولية. لكن الانتفاضة الشعبية عام 1987 قلبت الطاولة، صور الأطفال الذين يواجهون الجنود بالحجارة جابت العالم وكشفت عن وجه الاحتلال الحقيقي. هذه الانتفاضة لم ترفع فقط سقف التعاطف الشعبي الدولي بل دفعت القيادة الفلسطينية إلى استثمار الزخم.
في نوفمبر 1988 وأثناء اجتماع المجلس الوطني في الجزائر أعلن ياسر عرفات وثيقة الاستقلال.
ولدت دولة فلسطين على الورق، لكن الأهم أن أكثر من 80 دولة سارعت للاعتراف بها فوراً تبعتها عشرات أخرى خلال أسابيع.
في المقابل رفضت الولايات المتحدة الاعتراف ومنعت عرفات من دخول نيويورك ما دفع الأمم المتحدة لعقد الجلسة في جنيف، هناك صوتت 150 دولة مرحبة بالخطوة وتم تغيير اسم الوفد من منظمة التحرير إلى فلسطين.
أوسلو بين الأمل والانكسار:
اتفاق أوسلو عام 1993 بدا في حينه انتصاراً دبلوماسياً فقد اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير وبدأ الحديث عن دولة فلسطينية خلال خمس سنوات. لكن الواقع كان مختلفاً، إسرائيل استغلت المرحلة الانتقالية لمضاعفة الاستيطان وفرض وقائع تجعل الدولة الفلسطينية شبه مستحيلة، ورغم أن السلطة الوطنية تأسست وحملت بعض مظاهر الدولة إلا أن الاحتلال ظل مسيطراً على الأرض والحدود والاقتصاد.
هذا التناقض جعل الكثير من الدول تتردد في منح الاعتراف الكامل معتبرة أن التسوية السياسية قيد التفاوض، في تلك المرحلة ظل الاعتراف محصوراً في نطاق دول الجنوب العالمي بينما تجنبت أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية اتخاذ خطوات جدية.
الانتفاضة الثانية وتعرية الاحتلال:
عام 2000 انفجرت الانتفاضة الثانية بعد اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى، صور الدبابات الإسرائيلية وهي تقصف المدن الفلسطينية وحصار عرفات في مقره برام الله ومجازر جنين وغزة كل ذلك كشف أمام الرأي العام العالمي أن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية كما تدعي بل قوة احتلال عسكرية.
رغم الثمن البشري الباهظ فإن الانتفاضة ساهمت في تعميق عزلة إسرائيل ودفعت بمزيد من الدول للتعامل مع فلسطين كقضية تحرر وطني وليست قضية تفاوضية فحسب.
رفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة:
في نوفمبر 2012 قدم محمود عباس طلباً للتصويت على منح فلسطين صفة دولة مراقب. ورغم الضغوط الأميركية والإسرائيلية صوتت 138 دولة لصالح القرار مقابل 9 فقط معارضة، النتيجة كشفت حجم العزلة السياسية لإسرائيل وحجم التأييد الدولي للفلسطينيين.
القرار لم يمنح فلسطين مقعداً كاملاً لكنه فتح الباب للانضمام إلى منظمات دولية مهمة أبرزها محكمة الجنايات الدولية ما أثار مخاوف إسرائيل من إمكانية ملاحقة قادتها على جرائم الحرب.
الموجة الأوروبية الأخيرة:
في مايو 2024 اعترفت ثلاث دول أوروبية وازنة هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج بدولة فلسطين، هذه الخطوة حملت رمزية كبرى لأنها جاءت من داخل الاتحاد الأوروبي ولأنها رافقت الحرب الإسرائيلية على غزة التي أودت بعشرات الآلاف من المدنيين.
العالم شاهد جرائم الاحتلال مباشرة عبر الشاشات ما جعل استمرار التردد الأوروبي غير مقبول أخلاقيا.
اليوم تعترف بفلسطين أكثر من 150 دولة من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة أي ما يزيد عن 78% من المجتمع الدولي. ومع النقاشات الأخيرة يتوقع أن تنضم دول أوروبية أخرى مما يعني أن أربع دول من الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن قد تعترف بفلسطين لتبقى الولايات المتحدة وحدها في موقع الرافض.
دلالات الاعتراف:
الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس مجرد ورقة رمزية، إنه إقرار بأن الرواية الفلسطينية حول الأرض والهوية والسيادة أصدق من سردية الاحتلال القائمة على القوة.
كما أن الاعترافات المتتالية تفقد إسرائيل قدرتها على تسويق نفسها كدولة صغيرة محاصرة وتكشفها كقوة استعمارية توسعية.
في الوقت نفسه فإن الاعترافات لا تكفي وحدها لتغيير الواقع على الأرض حيث ما تزال إسرائيل تسيطر على الحدود والمياه والقدس والمستوطنات. لكن تراكم الشرعية الدولية يمنح الفلسطينيين أدوات جديدة في معركتهم السياسية والقانونية.
بعد ستين عاماً من النضال السياسي والدبلوماسي يتضح أن إسرائيل خسرت أهم معركة وهي معركة الشرعية الدولية. قد تمتلك السلاح والدعم الأميركي لكنها تفتقد الغطاء الأخلاقي، الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين ليس مجرد مكسب سياسي بل شهادة تاريخية على أن العالم بدأ يرى الاحتلال كما هو مشروع توسعي عنيف يرفض السلام ويقف في مواجهة أمة تطالب بحقها الطبيعي في الحرية والاستقلال.