كيف وُلدت القوة الصناعية الأميركية عبر الصدفة والضرورة؟

2025.09.21 - 09:30
Facebook Share
طباعة

 في ظل النقاش المتصاعد داخل البيت الأبيض والكونغرس حول "إعادة التصنيع" كأداة لاستعادة النفوذ الاقتصادي، تطرح دراسة حديثة -نشرتها وكالة بلومبيرغ- قراءة معمقة لجذور التجربة الأميركية التي انطلقت قبل أكثر من قرنين.
فالمسار الذي قاد الولايات المتحدة لتصبح القوة الاقتصادية الأولى عالميًا لم يكن نتاج خطة مركزية واضحة، بل جاء نتيجة تفاعل معقد بين الحروب الخارجية، الأزمات التجارية، والهجرة المدفوعة بالخبرات، إلى جانب صدَف تاريخية أسست قاعدة صناعية صلبة.


جدل مبكر: من آدم سميث إلى ألكسندر هاميلتون
يشير التقرير إلى أن النقاش حول جدوى التصنيع في أميركا بدأ مع صدور كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث عام 1776، الذي اعتبر أن تحويل رؤوس الأموال من الزراعة إلى الصناعة سيضر بالناتج القومي.
لكن وزير الخزانة الأول، ألكسندر هاميلتون، تحدى هذه الرؤية، مؤكداً أن الصناعة ضرورية لاستقلال الاقتصاد الأميركي. ومع ذلك، واجهت مقترحاته معارضة قوية داخل الكونغرس الذي كان يفضل الاستثمار الزراعي.
الأحداث لاحقًا أثبتت أن الصناعة ستصبح محورًا أساسياً لمسار الاقتصاد الأميركي، ليس بفضل خطة حكومية محكمة، بل نتيجة ضغوط خارجية أجبرت البلاد على التحول.


الحروب كقاطرة للتصنيع
بحسب البروفيسور جوشوا روزنبلوم من جامعة ولاية آيوا، الذي استندت إليه الدراسة، شكلت الحروب مع بريطانيا وفرنسا نقطة انعطاف حاسمة.

قانون الحظر التجاري عام 1807 أوقف التعامل مع أوروبا، ما وفر حماية شبه مطلقة للصناعات الناشئة مثل المنسوجات.

حرب 1812 مع بريطانيا دفعت نحو التوسع في صناعة النسيج وتوفير بدائل محلية عن الواردات.

إنشاء الترسانات العسكرية مثل ترسانة "سبرينغفيلد" أسهم في تطوير تقنيات دقيقة مثل القياسات الميكانيكية وإنتاج الأجزاء القابلة للتبديل، وهي ابتكارات شكلت ثورة صناعية مصغرة مهدت لنظام الإنتاج الواسع.


دور الهجرة ونقل التكنولوجيا
أحد العناصر الأكثر تأثيرًا كان تدفق المهاجرين البريطانيين الذين حملوا معهم خبرات تقنية متقدمة في الميكانيكا وصناعة النسيج والأسلحة.

هذا التدفق، إلى جانب اللغة المشتركة، سرّع عملية نقل التكنولوجيا من بريطانيا -القوة الصناعية الأولى آنذاك- إلى الولايات المتحدة. ورغم أن المنتجات الأميركية لم تضاهِ جودة الأوروبية في تلك المرحلة، خاصة في الأسواق الكندية، فإنها أرست أساساً صناعياً متيناً.


المنافسة الداخلية محرك الابتكار
رغم الحماية الجمركية التي خففت الضغط الخارجي، فإن السوق الأميركية شهدت منافسة قوية بين الشركات المحلية الصغيرة.

هذه المنافسة، كما يوضح التقرير، أجبرت المنتجين على تحسين الكفاءة وتطوير تقنيات جديدة، وهو ما ميز التجربة الأميركية عن دول مثل الأرجنتين في القرن العشرين، التي اعتمدت الحماية الجمركية دون خلق بيئة تنافسية داخلية، فانتهت صناعاتها الوليدة إلى الفشل.


دروس الحاضر من تجربة الماضي
تخلص وكالة بلومبيرغ إلى أن التجربة الأميركية المبكرة تحمل دروساً جوهرية:
الحماية الجمركية وحدها لا تكفي.
لا بد من سياسات حكومية داعمة.
تدفق المهارات الأجنبية عنصر حاسم.
المنافسة الداخلية ضرورية لضمان الابتكار والاستدامة.

هذه العوامل مجتمعة مهّدت الطريق أمام الولايات المتحدة لتتصدر الثورة الصناعية الثانية بحلول 1870، معتمدة على الكهرباء والمحركات الاحتراقية، ما فتح الباب لمرحلة نمو اقتصادي استثنائي.

واليوم، بينما يتحدث الرئيس السابق دونالد ترامب وغيره من الساسة عن "عصر صناعي جديد"، فإن العودة إلى تجربة القرنين الثامن والتاسع عشر توضح أن التصنيع ليس مجرد شعار انتخابي، بل مشروع متكامل يحتاج إلى شجاعة سياسية، ابتكار مستمر، وتكامل في السياسات والظروف.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 8