في الذكرى الخمسين لإخلاء مستوطنة «شلهيبت» الإسرائيلية في جنوب غرب سيناء، كانت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية هي التي أعادت تسليط الضوء على هذا الحدث شبه المنسي، الذي يمثل محطة فارقة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. وأظهرت هذه التغطية كيف استخدمت إسرائيل الاستيطان كأداة للسيطرة على الأراضي العربية واستغلال الموارد الطبيعية، بما في ذلك حقول النفط الاستراتيجية على ساحل خليج السويس، قبل أن تجبرها المقاومة المصرية والمفاوضات الدولية على التراجع جزئيًا بعد حرب أكتوبر 1973.
الاحتلال الإسرائيلي واستيطان سيناء
تعد مستوطنة «شلهيبت» واحدة من أبرز الأمثلة على المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة، إذ تأسست عام 1971 ضمن خطة موسعة لتعميق السيطرة الإسرائيلية على سيناء واستغلال مواردها. اعتمدت المستوطنة على حقول النفط القريبة، ما منح إسرائيل استقلالًا شبه كامل في الطاقة، وأتاح لها تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على المنطقة.
وكان موقع المستوطنة في أقصى الجنوب الغربي لسيناء، ما يوضح الطموح الإسرائيلي لتوسيع مناطق النفوذ غربًا، وتحويل سيناء إلى قاعدة اقتصادية واستراتيجية ضمن مشروع الاحتلال المتدرج.
حرب أكتوبر 1973 والضغط على الاحتلال
مع اندلاع حرب أكتوبر، أظهرت المقاومة المصرية قدرة القوات العربية على الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، وكشف ضعف السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة. وبعد انتهاء الحرب، بدأت المفاوضات الدولية، التي أشرفت عليها الولايات المتحدة، لفرض انسحاب جزئي من سيناء، بما في ذلك شريط العريش–رأس محمد وخليج السويس. وكان إخلاء مستوطنة «شلهيبت» من أبرز نتائج هذه المفاوضات، إذ شكل أول تجربة عملية لإزالة مستوطنة إسرائيلية ضمن إطار دبلوماسي.
الدور الأمريكي في تسوية النزاع
قاد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسنجر، بدعم من الرئيس جيرالد فورد، سياسة «إعادة التقييم» تجاه إسرائيل، تضمنت تجميد صفقات الأسلحة الجديدة، وتعليق التنسيق الاستراتيجي مع إسرائيل، ولقاءات غير رسمية مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية.
رغم هذه الجهود، حرصت إسرائيل على الحفاظ على مواقع استراتيجية، بما في ذلك محطات الإنذار وممرات الاستخدام المشترك للطرق الحيوية، ما يعكس طبيعة الاحتلال الاستيطانية وطموحه المستمر في السيطرة على الموارد الأساسية في سيناء.
المعارضة الداخلية الإسرائيلية
واجهت إسرائيل مقاومة شديدة من حركة الاستيطان «غوش إمونيم» واليمين السياسي المتشدد، الذين نظموا مظاهرات واعتصامات لمنع الانسحاب وتسليم الأراضي المصرية. وأظهر هذا أن مشروع الاستيطان الإسرائيلي يعتمد على القوة السياسية الداخلية، وأن أي تنازل يُعتبر هزيمة رمزية للسياسات التوسعية، ما يزيد من صعوبة تحقيق تسويات عادلة على الأرض العربية المحتلة.
الأبعاد الاستراتيجية والحقوقية
لم يقتصر الاتفاق المؤقت على الانسحاب العسكري، بل تضمن تفاهمات سرية بين إسرائيل والولايات المتحدة، تشمل الدعم العسكري والاقتصادي، ورفض أي اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية إلا بشروط إسرائيلية صارمة. وهذا يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن مجرد قضية حدودية، بل مشروعًا استعماريًا متكاملًا يهدف إلى استغلال الموارد والسيطرة على القرار السياسي العربي.
ورغم أن الاتفاق مهد الطريق لاحقًا لمعاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية، فإنه لم يعالج آثار الاستيطان على الأرض أو الانتهاكات السابقة بحق السكان والموارد الطبيعية.
إرث المستوطنة وإخلائها
يشكل إخلاء مستوطنة «شلهيبت» أول تجربة عملية لفك مستوطنة إسرائيلية ضمن اتفاقية دبلوماسية، ويعد نموذجًا لتجربة المقاومة العربية والضغط الدولي في استعادة الأراضي. كما يوضح الحدث أن الاحتلال الإسرائيلي كان وما زال يسعى للحفاظ على مكاسب استراتيجية واقتصادية، حتى ضمن تسويات مؤقتة.
ويسلط الضوء على ضرورة استيعاب الدروس التاريخية، بأن أي تسوية سياسية أو دبلوماسية تحتاج إلى استمرار المقاومة العربية، وضمان أن الحقوق الأرضية والاقتصادية تبقى محور أي اتفاقية.
تمر الذكرى الخمسون لإخلاء «شلهيبت» لتؤكد الوجه العدواني للاستيطان الإسرائيلي في تاريخ المنطقة، وتذكر العرب بأهمية الوحدة والمقاومة المستمرة للدفاع عن الأرض والحقوق الوطنية. وتجسد هذه الذكرى أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن مجرد وجود عسكري، بل مشروعاً استعمارياً يستهدف الموارد والسيطرة على القرار العربي، وأن الدبلوماسية العربية والضغط الدولي وحدهما لا يكفيان دون استمرار صمود الشعوب العربية والمقاومة على الأرض.