منذ انطلاق مشروع سد النهضة الإثيوبي، انشغلت النقاشات السياسية والإعلامية في المنطقة بمسألة المياه وحصة دول المصب من التدفقات السنوية.
غير أن هذا السرد يغفل في أحيان كثيرة جانباً آخر لا يقل خطورة، وهو مصير الطمي الذي كان يشكل عنصراً رئيسيا في دورة النيل البيئية والزراعية. السودان، الدولة الأقرب جغرافياً إلى السد والأكثر اعتماداً على النيل الأزرق، يجد نفسه أمام تحولات مركبة تتجاوز قضية الحصص المائية إلى معادلات الأمن القومي، واستقرار المجتمع، وموازين القوى الإقليمية.
الطمي الذي حُبس خلف الجدار:
تشير الدراسات الحديثة إلى أن سد النهضة سيحتجز نحو 95% من طمي النيل الأزرق، هذه النسبة الضخمة تعني أن السودان سيتلقى مياها أكثر نقاء من أي وقت مضى، لكنها في الوقت نفسه ستحرم أراضيه الزراعية من آلاف الأطنان من الرسوبيات الغنية التي كانت تجدد خصوبة التربة كل عام. بالنسبة للمهندسين المائيين، هذا قد يطيل عمر السدود السودانية مثل الروصيرص وسنار، حيث ستنخفض معدلات الترسيب إلى حدود دنيا.
أما بالنسبة للمزارعين، فهو تهديد مباشر للإنتاجية الزراعية التي تشكل شريان حياة ملايين السكان.
انتعاش للطاقة وتراجع الزراعة:
الجانب الفني يوضح أن انخفاض الرواسب في السدود السودانية سيحافظ على مستويات تخزينية مرتفعة، وهو ما يفتح الباب لتعظيم إنتاج الطاقة الكهرومائية لكن الوجه الآخر هو أن التربة السودانية ستعتمد أكثر على الأسمدة الصناعية لتعويض فقدان الطمي، ما يزيد الكلفة على المزارعين ويرفع أسعار الغذاء. المعادلة المركبة تنذر،باضطرابات اجتماعية، خاصة إذا تزامنت مع أزمات سياسية أو تضخم اقتصادي متسارع.
بين الاستقرار والتهديد الأمني:
تأثيرات سد النهضة لا تقتصر على الزراعة والطاقة، فهي تمتد إلى صميم الأمن القومي السوداني، التحكم الإثيوبي في تدفق المياه يعني أن السودان قد يواجه سيناريوهات مفاجئة من فيضانات أو جفاف بحسب قرارات تشغيلية لا يملك فيها سوى الحد الأدنى من المشاركة. ومع هشاشة البنية التحتية وغياب منظومة إنذار مبكر متكاملة، يصبح الأمن المائي مترادفاً مع الأمن الوطني.
تبديل الوضع قد يدفع صناع القرار في الخرطوم إلى إعادة تقييم خياراتهم الدفاعية والسياسية، وربما الانفتاح أكثر على تحالفات إقليمية توازن النفوذ الإثيوبي.
مصر في المعادلة:
لا يمكن للسودان النظر إلى سد النهضة بمعزل عن الموقف المصري، القاهرة ترى في المشروع تهديداً مباشراً لأمنها المائي، بينما يجد السودان نفسه في موقع أكثر التباسا.
من جهة، قد يستفيد من استقرار تدفق المياه وتراجع الطمي في سدوده، ومن جهة أخرى يواجه خسائر زراعية ومخاطر تشغيلية، تغيير التباين يجعل السودان جسراً محتملاً للتسوية أو ساحة إضافية للصراع. التنسيق مع مصر قد يمنح الخرطوم أوراق قوة في التفاوض، لكنه في الوقت نفسه قد يضعها في مواجهة مفتوحة مع أديس أبابا إذا اختارت الاصطفاف الكامل مع الموقف المصري.
وساطات إقليمية ودولية متشابكة:
الاتحاد الأفريقي يواصل جهوده لتقريب المواقف بين إثيوبيا والسودان ومصر، مستندا إلى مبدأ الحلول للمشكلات الأفريقية، غير أن التعقيدات السياسية تجعل الوساطة الأفريقية محدودة التأثير ما لم تحظ بدعم دولي أوسع. الولايات المتحدة تطرح نفسها طرفا مسانداً، مؤكدة أن التفاوض هو الطريق الوحيد لتسوية الأزمة، واشنطن تتحرك عبر أدوات متعددة: الضغط الدبلوماسي، ربط المساعدات الاقتصادية بمسار التفاوض، وتشجيع الاستثمارات مقابل التزامات واضحة.
هذا الدور ليس بدافع الإيثار، وإنما جزء من تنافسها مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا على النفوذ في القرن الأفريقي.
اقتصاد السودان بين مطرقة السد وسندان الأزمات:
السودان يعيش أزمة اقتصادية ممتدة، وسد النهضة قد يضيف طبقة جديدة من التحديات. فقدان الطمي سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة الزراعة، ما يزيد الضغط على العملة الوطنية ويرفع معدلات التضخم، كما أن تذبذب المياه قد يعرقل مشاريع الري الكبيرة، ويقلص قدرة السودان على الاستفادة من أراضيه الزراعية الشاسعة التي طالما وُصفت بأنها سلة غذاء محتملة للعالم العربي.
في المقابل، إذا أحسن السودان إدارة ملف الطاقة المائية فقد يحصل على إيرادات إضافية من الكهرباء تساعد في تخفيف الضغط المالي، لكن ذلك مرهون بالتخطيط طويل المدى والاستقرار السياسي.
سيناريوهات المستقبل:
أمام السودان ثلاثة مسارات رئيسية في علاقته بسد النهضة. السيناريو الأول هو التعاون، حيث يتم التوصل إلى اتفاق شامل مع إثيوبيا ومصر يضمن تبادل البيانات وإدارة مشتركة للتدفقات، وهو السيناريو الأمثل لضمان الاستقرار، السيناريو الثاني هو الجمود، أي استمرار الوضع الراهن دون اتفاق ملزم، مع الاعتماد على حلول مؤقتة، ما يفاقم حالة عدم اليقين. السيناريو الثالث هو التصعيد، سواء عبر نزاعات دبلوماسية حادة وهو احتمال لا يمكن استبعاده في ظل تناقض المصالح وتداخل الحسابات الداخلية والإقليمية.
الولايات المتحدة والبحث عن نفوذ:
في قراءة أعمق للدور الأمريكي، يتضح أن واشنطن تسعى إلى الإمساك بزمام التوازنات في المنطقة من خلال ملف سد النهضة، فهي تدرك أن التحكم في مياه النيل الأزرق يعني تأثيراً مباشراً على استقرار دولتين محوريتين هما مصر والسودان، لذلك تركز على الدفع نحو اتفاق يحد من التوتر، وفي الوقت ذاته يربط الخرطوم والقاهرة بمسارات اقتصادية وتجارية مع واشنطن، الخبراء يرون أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى سد الطريق أمام نفوذ صيني متنامي في مشاريع البنية التحتية ونفوذ روسي متزايد عبر بوابة الأمن والدفاع.
انعكاسات اجتماعية وسياسية داخل السودان:
الأبعاد الداخلية لا تقل أهمية عن الخارجية، أي تراجع في الإنتاج الزراعي بسبب فقدان الطمي قد يؤدي إلى موجات جديدة من النزوح نحو المدن، وزيادة معدلات البطالة، وارتفاع أسعار الغذاء.
هذه الضغوط يمكن أن تتحول إلى وقود لاحتجاجات شعبية تستغلها المعارضة لإضعاف الحكومة، في بلد يعاني أصلا من اضطرابات سياسية وعسكرية متكررة، يصبح ملف سد النهضة عاملاً إضافياً يزيد هشاشة الوضع الداخلي.
في سياق متصل، يرى خبراء أن السودان يحتاج إلى مقاربة متعددة المستويات للتعامل مع تداعيات سد النهضة على المستوى الفني، يجب الاستثمار في تحديث أنظمة الري وتوسيع استخدام الأسمدة العضوية لتعويض فقدان الطمي، مع تطوير شبكات الرصد والإنذار المبكر، اما على المستوى السياسي، من الضروري تعزيز قنوات الحوار مع مصر وإثيوبيا، مع الحفاظ على هامش مستقل في الموقف السوداني يمنع انزلاقه إلى تبعية مطلقة لأي طرف ايضاً المستوى الدولي، استثمار الضغوط الأمريكية لتأمين دعم اقتصادي وتقني يساعد السودان على إدارة موارده المائية بكفاءة أكبر، هذه التوصيات لا تمثل وصفة جاهزة بقدر ما تشكل إطارا عاما لاستراتيجية وطنية تجعل من تحديات السد فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز مكانة السودان الإقليمية.