شهدت العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة على مدى عقود تقلبات حادة وصراعات متكررة، انعكست على الوضع السياسي والأمني السوري، وعلى التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط. مرت هذه العلاقات بمراحل من التعاون والتوتر، تأثرت بالتحولات الكبرى في المنطقة، بدءًا من الحرب الباردة، مرورًا بالحروب العربية الإسرائيلية ونشوء حركات القومية العربية، وصولًا إلى الثورة السورية وما أعقبها من تغييرات سياسية واقتصادية عميقة.
بدايات العلاقات والدعم الأميركي قبل الاستقلال
ترجع جذور العلاقات بين البلدين إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة، عندما أقامت الولايات المتحدة تمثيلاً دبلوماسياً في دمشق خلال فترة الدولة العثمانية. ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى وانسحاب العثمانيين، برز الدور الأميركي في إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
في أكتوبر/تشرين الأول 1918، أعلن الملك فيصل الأول استقلال سوريا، في ظل اعتراض القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية. حاول العرب الاستناد إلى دعم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، مستندين إلى مبادئه حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا أن وفاة ويلسون حالت دون تحقيق الدعم الكامل، لتظل سوريا تحت الانتداب الفرنسي.
خلال الحرب العالمية الثانية، دعم العديد من القادة السوريين الحلفاء، وكانوا ضمن المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة عام 1945، ما مكّن سوريا من الحصول على دعم الولايات المتحدة ضد الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني، قبل أن تتحقق استقلالها الكامل عام 1946.
الحرب الباردة والانقلابات العسكرية
بعد الاستقلال، شهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية المدعومة أو المعترض عليها أميركياً. ففي عام 1949، دعمت الولايات المتحدة انقلاب حسني الزعيم الذي أطاح بالقوتلي، ليوقع الزعيم اتفاقيات لصالح واشنطن وإسرائيل، قبل أن يتعرض للانقلاب نفسه على يد زميله سامي الحناوي، الذي أبدى مواقف معادية للولايات المتحدة، فأيدت واشنطن انقلاب أديب الشيشكلي.
مع انتخاب القوتلي مجددًا في 1955، حاول التقارب مع مصر وجمال عبد الناصر، ما أدى إلى تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة، التي سعت إلى الإطاحة به عام 1957 دون نجاح. تبعت هذه الأحداث سلسلة من التدخلات الأميركية في السياسة السورية بهدف احتواء النفوذ السوفياتي، خاصة خلال الحرب الباردة، ودعم حلفاء إقليميين مثل مصر.
الوحدة السورية المصرية وأثرها
بعد إعلان الوحدة السورية المصرية في فبراير/شباط 1958، قدمت الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية لسوريا، إلا أنها دعمت لاحقًا انقلاب الانفصال عبر ضباط من حزب البعث. وبعد سقوط الوحدة، سيطر النظام المعادي للسياسة الأميركية على البلاد، ما دفع واشنطن وإسرائيل للعمل على تغييره، بما في ذلك التأثير على الانقلابات الداخلية في الستينيات.
حرب 1967 وتصاعد التوترات
شهدت علاقات البلدين فتورًا واضحًا بعد حرب 1967، وتصاعدت التوترات بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970، رغم محاولة الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر إعادة إحياء العلاقات في زيارة دمشق عام 1974.
ومع إدراج سوريا في قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1979 بسبب دعمها للفصائل الفلسطينية، فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية وعسكرية شملت حظر بيع الأسلحة والتقنيات المتقدمة، وقيودًا على المعاملات المالية والتجارية، ما أثر بشكل مباشر على الاقتصاد السوري.
التعاون المحدود في عهد كلينتون وتصعيد العقوبات في عهد بوش
رغم مشاركة سوريا في التحالف الدولي خلال حرب الخليج الثانية، لم تُرفع العقوبات الأميركية. وفي عهد بيل كلينتون (1993-2001)، شهدت العلاقات بعض التطورات البسيطة، خاصة عبر دعم اتفاقيات أوسلو للسلام، لكن فشل الوصول إلى سلام شامل أبقى العلاقات على مستوى متوتر.
مع تولي جورج بوش الابن السلطة، وصفت الإدارة السورية بأنها جزء من "محور الشر"، وزادت الضغوط على دمشق، بما في ذلك قانون محاسبة سوريا 2003 والعقوبات الاقتصادية الشاملة، إضافة إلى تصاعد الاتهامات بدعم الإرهاب بعد اغتيال رفيق الحريري وحرب تموز 2006.
الثورة السورية وعقوبات قيصر والكبتاغون
شكل اندلاع الثورة السورية عام 2011 نقطة تحول كبيرة في العلاقات، مع فرض الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات واسعة تشمل البنك المركزي السوري وقيود على صادرات النفط. تلتها سلسلة من الأوامر التنفيذية التي استهدفت نظام الأسد مباشرة، وصولًا إلى قانون قيصر لعام 2020، الذي فرض قيودًا اقتصادية وعقوبات على أي جهة تتعامل مع النظام السوري، إضافة إلى قوانين "الكبتاغون 1 و2" لتقييد تمويل النظام عبر تجارة المخدرات.
ما بعد سقوط نظام بشار الأسد
بعد سقوط نظام الأسد، شهدت العلاقات الأميركية السورية تحولًا جذريًا، حين وقع الرئيس دونالد ترامب في يونيو/حزيران 2025 أمراً تنفيذياً أنهى معظم العقوبات الاقتصادية، مستثنيًا قيصر وبعض القيود على الأفراد المرتبطين بالنظام السابق، وأتاح إعادة سوريا للنظام المالي الدولي، ما فتح الباب أمام استثمارات إقليمية ودولية في إعادة الإعمار، خاصة من تركيا والدول الخليجية.
تاريخ العلاقات السورية الأميركية يظهر أن هذه العلاقة كانت دائماً أداة نفوذ في إطار الصراعات الإقليمية والدولية. ففي العقود الماضية، شكلت سوريا ساحة لتنافس القوى الكبرى، بينما ظل الشعب السوري عرضة للتداعيات الاقتصادية والسياسية لهذه الصراعات. ومع رفع العقوبات، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تسمح للسوريين بالاندماج في الاقتصاد العالمي، لكن التحديات الأمنية والسياسية لا تزال قائمة، مع ضرورة مراقبة كيفية استثمار القوى الإقليمية والدولية لهذه الفرصة لصالح إعادة بناء الدولة السورية واستقرارها.