في لحظة فارقة من تاريخ السودان الممزق بالحرب، اجتمع وزراء خارجية السعودية ومصر والإمارات والولايات المتحدة ليطلقوا مبادرة سياسية تحمل في طياتها أملاً بوقف نزيف الدم ووضع حد لأطول نزاع مسلح يشهده البلد منذ استقلاله. البيان المشترك الذي صدر عقب مشاورات مكثفة جاء ليؤكد أن الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 لم تعد مجرد صراع داخلي على السلطة، بل تحولت إلى أخطر أزمة إنسانية على مستوى العالم، وتهديد مباشر للسلم والأمن الإقليميين. ومن هنا، بدا التحرك الرباعي محاولة متوازنة لفرض مسار سياسي جديد، يضع المدنيين في صدارة الأولويات، ويعيد للسودان فرصة إعادة بناء دولة موحدة تقوم على حكومة مدنية خلال فترة لا تتجاوز تسعة أشهر.
مبادئ المبادرة
الحفاظ على وحدة السودان وسيادته
أكد الوزراء الأربعة أن وحدة السودان وسيادته تمثل حجر الزاوية لأي عملية سياسية أو تسوية محتملة. فالبلاد تعيش منذ اندلاع الحرب على وقع مخاطر التفكك الجغرافي والاجتماعي، في ظل محاولات بعض القوى الإقليمية استغلال حالة الفوضى لتثبيت نفوذها في مناطق محددة. ومن هنا جاء التشديد على أن أي مسار تفاوضي يجب أن يحافظ على كيان الدولة السودانية متماسكاً، بعيداً عن سيناريوهات التقسيم أو الانفصال التي قد تفتح الباب أمام صراعات طويلة الأمد تتجاوز حدود السودان نفسها.
وقف الهجمات الجوية والبرية العشوائية
من أبرز النقاط التي تناولها البيان المشترك الدعوة إلى وقف فوري للهجمات الجوية والبرية العشوائية التي يشنها الطرفان المتحاربان. فقد أسفرت هذه الهجمات عن تدمير واسع للبنية التحتية الحيوية في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، فضلاً عن سقوط أعداد كبيرة من المدنيين بين قتيل وجريح. ويُنظر إلى هذا المطلب باعتباره خطوة أولى لإعادة بناء الثقة، وإظهار نوايا جدية من الأطراف المتحاربة تجاه الالتزام بمسار سلمي يضع حياة المدنيين فوق الحسابات العسكرية.
هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر
اقترحت المبادرة هدنة إنسانية مؤقتة تمتد لثلاثة أشهر، تمثل مقدمة ضرورية لوقف دائم لإطلاق النار. هذه الهدنة تهدف إلى خلق مساحة من الهدوء تسمح للمنظمات الإنسانية بالدخول إلى المناطق المنكوبة وتقديم المساعدات العاجلة. كما تتيح الفرصة لبدء حوار سياسي جاد بعيداً عن ضغط الميدان العسكري، على أن تكون هذه الهدنة اختباراً حقيقياً لمدى التزام الأطراف بوقف التصعيد.
تسهيل دخول المساعدات الإنسانية
من بين أكثر النقاط إلحاحاً في البيان الدعوة إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع ولايات السودان دون قيود أو عراقيل. فالحرب تسببت في نزوح ملايين الأسر إلى المخيمات، وخلّفت مجاعة وحرماناً واسع النطاق من الخدمات الأساسية. ويعتبر الوزراء أن ضمان تدفق الإغاثة يمثل واجباً أخلاقياً وقانونياً في آن واحد، وأن منعها أو استخدامها كورقة ضغط سياسي يعد انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني.
منع التدخلات العسكرية الخارجية
النقطة الأخيرة تمثلت في الدعوة إلى وقف الدعم العسكري الخارجي الذي وصفه البيان بأنه "يغذي النزاع ويطيل أمده". فقد تحولت الحرب السودانية في نظر كثير من المراقبين إلى ساحة صراع بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية، ما جعل الوصول إلى تسوية سياسية داخلية أمراً بالغ الصعوبة. ومن هنا، شدد الوزراء على أن أي عملية سلام حقيقية لن تكتمل دون تجفيف منابع السلاح والدعم الخارجي، وإلزام جميع الأطراف بالاحتكام إلى طاولة المفاوضات بدلاً من ميادين القتال.
أبعاد سياسية وأمنية
أكد البيان أن مستقبل السودان يجب أن يقرره شعبه عبر عملية انتقالية شاملة وشفافة، بعيداً عن هيمنة الأطراف المتحاربة أو الجماعات المتطرفة. وقد أشار الوزراء صراحة إلى رفض أي تدخل من جماعات مرتبطة بـ"الإخوان المسلمين"، واصفين تأثيرها بـ"المزعزع للاستقرار". كما شددوا على ضرورة أن تشمل التسوية كلاً من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، باعتبار أن استبعاد أي طرف سيعني إعادة إنتاج الأزمة.
الإطار الإقليمي والدولي
لم يقتصر البيان على الشأن الداخلي السوداني فحسب، بل امتد ليشمل قضايا أمنية أوسع. فقد أشار إلى أهمية تأمين البحر الأحمر باعتباره ممراً استراتيجياً للتجارة العالمية، إضافة إلى مكافحة التهديدات الإرهابية العابرة للحدود التي قد تنطلق من فراغ السلطة في السودان. وفي هذا السياق، شدد الوزراء على أن ترك النزاع دون حل يعني فتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية لفرض أجنداتها الخاصة، ما يشكل خطراً مباشراً على استقرار القرن الأفريقي والشرق الأوسط على السواء.
دعم لمساري جدة والقاهرة
أكد الوزراء دعمهم الكامل لمسار جدة الذي رعته السعودية والولايات المتحدة منذ اندلاع الحرب، معتبرينه أساساً لبناء أي تفاهم مستقبلي بين المتحاربين. كما أشادوا بجهود مصر التي استضافت في يوليو 2024 مؤتمراً ضم القوى المدنية والسياسية السودانية، بهدف صياغة رؤية للانتقال السياسي. واتفقوا على استمرار التنسيق عبر عقد لقاء وزاري رباعي في سبتمبر 2025 لمتابعة تنفيذ بنود المبادرة والضغط على الأطراف السودانية للالتزام بالجدول الزمني المحدد.
بدأت الحرب السودانية في أبريل 2023 عندما انفجر الصراع المكتوم بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). ومع تعثر كل محاولات التهدئة، تحولت مدن رئيسية مثل الخرطوم وأم درمان والفاشر إلى ساحات حرب مدمرة، أدت إلى مقتل عشرات الآلاف وتشريد ملايين الأسر. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان السودان، بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية، في واحدة من أسوأ الأزمات العالمية منذ الحرب العالمية الثانية.
كما ساهمت الدعم العسكري الخارجي في تعقيد المشهد، حيث حصلت قوات الدعم السريع على إمدادات من أطراف إقليمية، في حين اعتمد الجيش على دعم سياسي وعسكري من دول أخرى، وهو ما جعل النزاع يأخذ بعداً جيوسياسياً يتجاوز حدود السودان. وقد حذرت الأمم المتحدة مراراً من أن استمرار الوضع سيؤدي إلى مجاعة كارثية ويهدد بانهيار الدولة السودانية بالكامل.
يضع التحرك الرباعي الجديد السودان أمام مفترق طرق حاسم: إما القبول بعملية انتقالية تقود إلى حكم مدني مستقر خلال تسعة أشهر، أو الانزلاق أكثر نحو حرب طويلة الأمد ذات أبعاد إقليمية مدمرة. وبينما يترقب السودانيون الخطوة التالية، يبقى الرهان معلقاً على مدى جدية الأطراف المتحاربة في الالتزام بالهدنة المقترحة، وعلى قدرة الوسطاء الدوليين والإقليميين على منع أي تدخل خارجي يعيد إشعال الحرب من جديد. ومع ذلك، يمثل البيان الأخير نافذة أمل في بلد أثقلته سنوات من الصراع، ويعكس إدراكاً متزايداً بأن إنقاذ السودان لم يعد خياراً بل ضرورة عاجلة لحماية الأمن الإقليمي والدولي.