منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولت منطقة الخليج العربي إلى مسرحٍ مفتوح لصراعات النفوذ بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. فالمنطقة ليست مجرد تجمع لدول تطل على "مياه دافئة"، وإنما تختزن أكثر من نصف احتياطي النفط العالمي وتتحكم في أهم الممرات البحرية الاستراتيجية، ما جعلها قلب الأمن القومي الأمريكي ومركز اهتمامه السياسي والعسكري.
ويصف الدكتور أحمد سلامة، أستاذ التاريخ السياسي، المشهد قائلاً: "القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج لم تُبنَ فقط لحماية النفط أو خطوط الملاحة، بل جاءت كأداة لإعادة تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط. إنها بمثابة ذراع استراتيجية ممتدة من واشنطن إلى قلب المنطقة، تحكم حركة التجارة وتفرض وصايتها الأمنية على الدول المضيفة."
جذور الظاهرة.. من الحرب الباردة إلى "الحرب على الإرهاب"
يشير د. سلامة إلى أن الوجود الأمريكي في الخليج لم يكن طارئًا، بل تبلور منذ خمسينيات القرن الماضي، مع إدراك واشنطن أن بقاء أوروبا واليابان والصين مرتبط بتدفق نفط الخليج.
"لقد أدركت الولايات المتحدة أن من يسيطر على الخليج يسيطر فعليًا على النظام الدولي بأسره. لذلك تحولت المنطقة إلى ما يشبه الامتداد الطبيعي للأمن القومي الأمريكي، تمامًا كما كان البحر الكاريبي امتدادًا لنفوذها في القرن التاسع عشر."
بعد أحداث 11 سبتمبر، اتخذت القواعد العسكرية بعدًا جديدًا، إذ تحولت من مجرد مواقع لوجستية إلى مراكز عمليات رئيسية في "الحرب على الإرهاب". ومن أبوغريب في العراق إلى غوانتانامو في كوبا، ارتبط اسم القواعد الأمريكية بانتهاكات حقوق الإنسان، ما أثار موجات غضب عالمية وشكوكًا حول شرعية هذا الانتشار.
خريطة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج
تحتفظ واشنطن بانتشار واسع يمتد عبر البحرين وقطر والكويت والسعودية والإمارات وعُمان، حيث تتنوع الأدوار بين مقرات قيادية (مثل الأسطول الخامس في البحرين)، ومستودعات لوجستية (مثل السيلية في قطر)، وقواعد جوية استراتيجية (مثل العديد والظفرة ومصيرة).
ويعلّق د. سلامة:"هذه القواعد ليست مجرد نقاط ارتكاز عسكرية، بل منظومة متكاملة تُدار بذكاء أمريكي. إنها تشكل شبكة أمان تحمي مصالح واشنطن الاقتصادية والسياسية، لكنها في الوقت نفسه تُبقي دول الخليج في دائرة اعتماد أمني كامل على الولايات المتحدة."
حماية أم ابتزاز؟
واشنطن تبرر وجودها العسكري في الخليج بذريعة حماية حرية الملاحة وضمان استقرار أسواق الطاقة. غير أن د. سلامة يقدّم قراءة مغايرة:
"الحقيقة أن هذه القواعد تحولت إلى وسيلة ضغط وابتزاز سياسي واقتصادي. الدولة المضيفة قد تجد نفسها رهينة وجود هذه القوات، فهي مكبلة باتفاقيات طويلة الأمد، وفي الوقت ذاته معرضة لأن تصبح هدفًا مباشرًا في حال نشوب صراع مع إيران أو قوى أخرى."
وقد تجلى ذلك مؤخرًا في استهداف إيران لقاعدة العديد في قطر خلال حرب "طوفان الأقصى 2025"، رغم العلاقات الدبلوماسية الودية بين طهران والدوحة، وهو ما يثبت – بحسب د. سلامة – أن "القواعد الأجنبية ليست ضمانًا للأمن بقدر ما هي بوابة لاستدعاء المخاطر."
التداعيات على السيادة والاقتصاد
لا يقتصر أثر القواعد الأمريكية على الجانب الأمني فقط، بل يمتد إلى الاقتصاد والسيادة الوطنية. فمناطق شاسعة من أراضي بعض الدول الخليجية حُوّلت إلى مواقع عسكرية مغلقة، حُرم السكان من استغلالها، ما انعكس سلبًا على التنمية الزراعية والصناعية.
ويؤكد د. سلامة أن:"كل قاعدة عسكرية أجنبية هي عمليًا انتقاص من سيادة الدولة المضيفة، حتى لو جاءت بغطاء اتفاقيات ثنائية. فالمعادلة واضحة: الأرض وطنية لكن القرار سيادي أمريكي."
بين القبول الشعبي والرفض الصامت
من الملاحظ أن الأنظمة الخليجية ترى في الوجود الأمريكي مظلة حماية ضرورية ضد "الخطر الإيراني"، بينما يظل جزء كبير من الرأي العام ينظر إلى هذه القواعد باعتبارها شكلًا من أشكال الوصاية الجديدة.
"المجتمعات الخليجية – يقول د. سلامة – تتعامل مع القواعد العسكرية بصمت، فهي لا تملك قرارًا سياسيًا مستقلاً، لكن تحت هذا الصمت هناك قلق شعبي متراكم، يزداد مع كل أزمة إقليمية تضع هذه القواعد في مرمى النيران."
يبدو أن القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي ستظل ركيزة أساسية في معادلة الأمن الإقليمي والدولي لعقود قادمة. لكن السؤال الذي يطرحه د. سلامة في ختام حديثه يبقى معلقًا:
"إلى متى ستظل دول الخليج ترى في الوجود الأمريكي مظلة حماية، بينما هو في حقيقته قيد استراتيجي على سيادتها؟ وهل يمكن أن يأتي يوم تجد فيه هذه الدول نفسها مضطرة لإعادة رسم معادلتها الأمنية بعيدًا عن واشنطن؟"