شكّل العدوان الإسرائيلي الذي استهدف العاصمة القطرية الدوحة محطة مفصلية في مسار الصراع، ليس لأنه انتهى بالفشل في اغتيال قيادات من حركة "حماس" وحسب، بل لأنه عرّى مجدداً وهم الضمانات الأميركية التي لطالما رُوّج لها كصمام أمان للحلفاء العرب.
حتى ساعات متأخرة من ليلة أمس، كانت واشنطن تحاول ترقيع ما أصاب صورتها، بعد أن بات واضحاً أن القيادة الوسطى الأميركية كانت على علم مسبق بالعملية. تصريحات مسؤولين أمنيين وسياسيين في واشنطن أكدت أن إسرائيل أبلغت الأميركيين بخطتها، حتى وإن ادّعت لاحقاً أنها لم تحدد مكان التنفيذ. لكن الحقيقة تبقى أن أي حركة لطيران حربي إسرائيلي في المنطقة لا تمرّ من دون تنسيق مع الأميركيين، ما يجعل إنكارهم أقرب إلى ذرّ الرماد في العيون.
فشل أمني ورسائل سياسية
العملية الإسرائيلية لم تحقق هدفها الأساسي باغتيال قادة "حماس"، لكنها وجّهت رسالة مزدوجة: أولاً، أن لا خطوط حمراء أمام إسرائيل في مطاردة خصومها، حتى في عواصم دول حليفة للغرب. وثانياً، أن ما لا يتحقق بالقوة، يمكن أن يُفرض بالمزيد منها، في تحدٍّ واضح للمعايير الدولية ولسيادة الدول.
لكن الفشل في الدوحة لا يقتصر على إخفاق عسكري، بل يتعداه إلى أزمة سياسية لأميركا وحلفائها. فالإدارة الأميركية وجدت نفسها متورطة في صمت يرقى إلى شبهة التواطؤ، بينما يتابع الشارع العربي ما يجري في فلسطين، ولبنان، وسوريا، واليمن، حيث لا قيود على العدوان الإسرائيلي المستمر.
واقع المقاومة في الخارج
قيادات المقاومة الفلسطينية المنتشرة في الخارج تعيش منذ أكثر من عام ونصف في حالة استنفار أمني دائم. من تركيا إلى مصر وقطر، يرافقها هاجس الاستهداف الإسرائيلي في أي لحظة. الهجوم على الدوحة عزّز هذه المخاوف وأكد أن لا ضمانات حقيقية من أي دولة مضيفة، لأن يد إسرائيل تطال الجميع، سواء عبر عمليات أمنية معقدة أو ضربات عسكرية مباشرة.
هذا الواقع يضع المقاومة أمام تحديات إضافية، لكنه في الوقت ذاته يعزز قناعة جمهورها بأن الرهان على الحماية الدولية أو الضمانات الغربية وهم خطير، وأن القوة وحدها قادرة على ردع العدوان.
لبنان في قلب المعادلة
في لبنان، تتقاطع التداعيات بشكل مباشر. فالفريق المنخرط في المشروع الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي لا يتوقف عن محاولاته لإضعاف المقاومة ونزع سلاحها، رغم الفشل الذي أصاب هذه الخطة في الاجتماع الحكومي الأخير. المراهنة على الضمانات الأميركية أو وعود المجتمع الدولي تبدو أكثر هشاشة اليوم بعد مشهد الدوحة.
ولولا إدراك قيادة الجيش اللبناني لحجم الكارثة المحتملة، لكان لبنان أمام سيناريو دموي مفتوح. فالضغط على المقاومة لم يتوقف، لكن الأحداث الأخيرة تؤكد أن أي محاولة لفرض نزع سلاحها ستفتح البلاد على مواجهة شاملة لا طاقة لها بها.
دروس من سوريا
تجربة الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع تعكس بدورها مأزق الرهان على التفاهمات مع واشنطن وتل أبيب. فكل تنازل سياسي أو أمني تقدمه دمشق يُقابَل بغارات جديدة تضرب ما تبقى من قدرات الجيش السوري. الرسالة واضحة: لا مكان للضمانات، والمطلوب دائماً المزيد من التنازلات حتى تصل إلى حد الشلل الكامل.
نحو مواجهة مفتوحة
الهجوم على قطر أعاد التذكير بحقيقة جوهرية: لا ضمانات أميركية ولا خطوط حمراء، بل منطق واحد يحكم المنطقة، هو منطق القوة. حلفاء واشنطن في بيروت وسواها لم يعودوا قادرين على تسويق وعود الإنقاذ عبر "التفاهم مع أميركا"، لأن الوقائع تكشف عكس ذلك تماماً.
المرحلة المقبلة تضع قوى المقاومة أمام استحقاق واضح: الاستمرار في بناء القوة والتمسك بها كخيار وحيد لمواجهة إسرائيل وحلفائها. أما الرهان على الدبلوماسية الفارغة والوعود الدولية، فلم يعد يقنع أحداً.
فالدوحة أمس لم تكن مجرد ساحة لعدوان جديد، بل محطة فاصلة أكدت أن ساعة المواجهة تقترب، وأن الحديث عن ضمانات أميركية لم يعد سوى سردية من الماضي.