لم يكن تصريح رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، الثلاثاء، مجرد موقف عابر بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بل بدا وكأنه رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج: الجيش اللبناني غير قادر على الإمساك بزمام الأمن من دون دعم أميركي واسع، وخطة حصر السلاح بيد الدولة لم تعد مؤجلة، بل باتت على جدول التنفيذ المباشر.
تصريحات سلام تأتي في ظرف دقيق، حيث يعاني لبنان من انهيار اقتصادي متواصل، وضعف مؤسساتي، وتراجع نفوذ حزب الله بعد حرب العام الماضي، بينما تضغط الولايات المتحدة لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى المواجهة مع إسرائيل في نوفمبر 2024.
الجيش اللبناني بين الحاجة والدور المنتظر
سلام أكد أن الجيش يواجه أعباء ثقيلة، من مراقبة الحدود إلى مواجهة الإرهاب وحفظ الأمن الداخلي. غير أن الواقع يكشف أن المؤسسة العسكرية تعاني من نقص حاد في العتاد، وضعف التمويل، وتآكل رواتب الجنود بفعل التضخم والانهيار المالي.
لذلك، شدد سلام على أن "رفع رواتب العسكريين وتعزيز العتاد مسألة أساسية"، وأن الخطة الحكومية لا يمكن أن تُنفذ من دون شراكة مباشرة مع واشنطن والدول الداعمة. هذا الموقف يعكس إدراك الحكومة أن أي محاولة لنزع سلاح حزب الله دون مظلة أميركية ودولية ستبقى مجرد حبر على ورق.
الخطة: نزع السلاح جنوب الليطاني خلال ثلاثة أشهر
وزير الخارجية يوسف رجي كشف النقاب عن خطة من خمس مراحل أعدها قائد الجيش رودولف هيكل، تبدأ بمهلة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر لحصر السلاح جنوب نهر الليطاني بالكامل.
هذه المنطقة بالذات تحمل رمزية كبيرة، إذ نصّ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن عام 2006 على أن تكون خالية من أي مسلحين أو سلاح خارج سلطة الدولة. لكن الواقع بقي مختلفاً، حيث حافظ حزب الله على وجوده العسكري، مستخدماً الجنوب كقاعدة متقدمة في مواجهة إسرائيل.
تنفيذ هذه الخطة يعني، وفق مصادر سياسية، تغييراً جذرياً في معادلة القوة الداخلية، وربما بداية لتقليص نفوذ الحزب الذي ظل لعقود صاحب اليد الطولى في القرار الأمني والعسكري.
حزب الله بين الإنهاك والرفض
المواجهة الأخيرة مع إسرائيل شكّلت نقطة تحول. الحزب خسر عدداً من أبرز قادته، وتعرضت بنيته العسكرية لضربات مؤلمة، فضلاً عن تدمير جزء كبير من ترسانته. هذه الخسائر انعكست تراجعاً في هيبته داخل الشارع اللبناني، الذي بات مثقلاً بالأزمات المعيشية.
لكن رغم ذلك، أعلن الحزب على لسان أمينه العام نعيم قاسم رفضه المطلق للخطة الحكومية، واعتبرها "تسليماً للبنان إلى إسرائيل وخدمةً للولايات المتحدة". هذا الموقف يعكس خشية الحزب من أن تؤدي عملية نزع سلاحه، ولو تدريجياً، إلى إنهاء دوره كقوة عسكرية مستقلة، وبالتالي تراجع نفوذه السياسي.
الموقف الإسرائيلي: مراقبة واستعداد
من جهة أخرى، لا تُخفي إسرائيل قلقها من أي مماطلة في تطبيق اتفاق وقف النار. فهي أبقت قواتها متمركزة في خمس تلال حدودية استراتيجية، وتواصل غارات شبه يومية تقول إنها تستهدف "مخازن أسلحة ومواقع قيادية" لحزب الله.
تل أبيب تلوّح باستئناف العمليات العسكرية إذا شعرت أن الحكومة اللبنانية عاجزة عن تنفيذ التزاماتها، ما يضع بيروت أمام خيار صعب: إما فرض سلطة الدولة على الحزب، أو مواجهة خطر حرب جديدة.
الخطة اللبنانية تأتي أيضاً في سياق ضغوط متزايدة من واشنطن، التي رعت اتفاق الهدنة وتعتبر نزع سلاح حزب الله أحد أهم بنوده غير المعلنة. الأميركيون يضغطون لعقد مؤتمر دولي لدعم الجيش، لكن بشروط أبرزها أن يتولى عملياً مهمة حصر السلاح وإضعاف قدرات الحزب.
أما على المستوى الدولي، فهناك ترحيب أوروبي بالخطة، باعتبارها خطوة لاستقرار الحدود ومنع انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية جديدة. غير أن العواصم الأوروبية تشدد على أن نجاحها يتطلب غطاءً سياسياً داخلياً وتوافقاً لبنانياً عريضاً، وهو ما يبدو مفقوداً حتى الآن.
اتفاق الطائف وظل الحرب الأهلية
اتفاق الطائف عام 1989 نصّ على حل جميع الميليشيات وبسط سلطة الدولة، لكن حزب الله كان الاستثناء بحجة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ومنذ ذلك الحين، تحوّل الحزب إلى قوة عسكرية وسياسية تتجاوز قدرات الدولة، ما جعل أي محاولة لنزع سلاحه بمثابة صدام مباشر مع توازنات ما بعد الحرب الأهلية.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود، تجد الحكومة نفسها أمام اختبار حقيقي: هل يمكن إنهاء هذا الاستثناء التاريخي في ظل ظروف إقليمية ودولية متقلبة؟
لبنان أمام مفترق طرق
الخطة الحكومية قد تُدخل لبنان مرحلة جديدة من الصراع الداخلي إذا لم تُنفذ بتوافق وطني، لكنها أيضاً قد تشكل فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة واستعادة سيادتها على كامل أراضيها.
بين إصرار نواف سلام على الدعم الأميركي، ورفض حزب الله لأي مساس بسلاحه، وتهديدات إسرائيل المتصاعدة، يبدو أن لبنان يقف اليوم على فوهة بركان، والمرحلة المقبلة ستحدد ما إذا كان سيتجه نحو تثبيت الاستقرار أو نحو جولة جديدة من الفوضى والعنف.