شهدت العاصمة السورية دمشق، الثلاثاء، وصول وفد روسي رفيع المستوى برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكساندر نوفاك، في زيارة وُصفت بأنها من الأكثر حساسية منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول الماضي. الزيارة، التي شملت ملفات اقتصادية ودفاعية وسياسية، أعادت طرح الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين سوريا الجديدة وروسيا: هل هي شراكة متوازنة قائمة على السيادة، أم استمرار لإرث قديم اتسم بعدم التكافؤ واعتمد على النفوذ العسكري والسياسي لموسكو؟
الزيارة الثانية بعد سقوط الأسد
يُعدّ نوفاك ثاني مسؤول روسي رفيع يزور دمشق منذ سقوط النظام السابق، بعد زيارة ميخائيل بوغدانوف في يناير/كانون الثاني. ويعكس ذلك رغبة واضحة لدى موسكو في تثبيت حضورها في الساحة السورية، وعدم ترك فراغ قد تملؤه قوى أخرى إقليمية أو دولية.
وكان في استقبال الوفد الأمين العام لرئاسة الجمهورية، ماهر الشرع، والسفير الروسي في دمشق، ما أضفى على الزيارة طابعاً رسمياً يؤكد حرص الجانبين على إظهار دفء العلاقات.
الملفات المطروحة على الطاولة
شملت مباحثات الوفد الروسي مع الجانب السوري ملفات حساسة تتعلق بالاقتصاد والدفاع وإعادة الإعمار. وبحسب تصريحات وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، فإن دمشق تسعى إلى بناء علاقة "قائمة على السيادة والمصلحة المشتركة" بعيداً عن منطق التبعية.
وأكد الشيباني أن سوريا ترحب بالتعاون مع موسكو في مجالات الطاقة والزراعة والبنى التحتية، شرط أن يكون قائماً على "أسس عادلة وشفافة"، مشدداً على أن أي وجود أجنبي في سوريا لا بد أن يكون هدفه مساعدة الشعب على بناء مستقبله.
كما لم تغب القضايا الأمنية عن المباحثات، خصوصاً ملف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، والوجود العسكري الروسي في الساحل السوري، حيث تمتلك موسكو قواعد استراتيجية في طرطوس واللاذقية.
علاقة ملتبسة مع إرث ثقيل
منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، ارتبط اسم موسكو بشكل مباشر بدعم النظام السابق. ومع سقوط بشار الأسد في نهاية 2024، ورحيل حقبة اتسمت بالدمار والحروب، تحاول روسيا إعادة صياغة دورها لتتكيّف مع المعادلة الجديدة.
لكن هذا التحول ليس سهلاً. فبينما تتحدث موسكو عن شراكة استراتيجية قائمة على "الاحترام المتبادل"، ما زال الرأي العام السوري ينظر بعين الريبة إلى أي تعاون مع الروس، خشية أن يكون امتداداً للنفوذ السابق أكثر منه انفتاحاً على مستقبل متوازن.
البعد الاقتصادي: بين الحاجة والاعتماد
تضع دمشق اليوم ملف الاقتصاد في مقدمة أولوياتها، وسط حاجة ملحّة لإعادة الإعمار واستعادة دورة الإنتاج. وهنا تبرز روسيا كأحد أبرز المرشحين للمساهمة في هذه العملية، لا سيما في مجالات الطاقة والإنشاءات والزراعة.
غير أن المعضلة تكمن في قدرة الحكومة السورية الجديدة على إدارة هذا التعاون دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط على موسكو، خاصة بعد التجربة السابقة التي شهدت منح امتيازات واسعة للشركات الروسية على حساب السيادة الوطنية.
الدفاع والسيادة: خطوط حمراء
الملف الدفاعي كان حاضراً بقوة خلال المحادثات. فروسيا التي تمتلك وجوداً عسكرياً راسخاً في الساحل السوري، تسعى إلى ضمان استمرار هذا الوجود في المرحلة المقبلة.
الحكومة السورية من جانبها أكدت أن أي شراكة دفاعية يجب أن تخدم "حماية السيادة السورية ووحدة أراضيها"، في إشارة واضحة إلى رفض أي ترتيبات تمس القرار الوطني.
ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تصعيداً إسرائيلياً متواصلاً، ما يمنح الملف الدفاعي أولوية قصوى بالنسبة لدمشق، مع إدراكها أن روسيا لا ترغب في مواجهة مباشرة مع تل أبيب.
تحليل: بين الشراكة والتبعية
الزيارة الروسية تحمل في طياتها رسائل مزدوجة. فمن جهة، تؤكد موسكو أنها لن تتخلى عن دورها في سوريا، وأنها تنظر إلى البلاد كجزء من مجالها الاستراتيجي في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، تسعى دمشق إلى إعادة صياغة هذه العلاقة بما يتوافق مع مشروعها الوطني بعد سقوط النظام السابق.
التحدي الأكبر يكمن في قدرة سوريا الجديدة على تحويل العلاقة مع روسيا من حالة "الرعاية" التي اتسمت بها في عهد الأسد، إلى شراكة متكافئة تستند إلى المصلحة المشتركة لا إلى التبعية.
فالاقتصاد السوري بحاجة إلى استثمارات ودعم خارجي، لكن هذا الدعم يجب أن يكون محكوماً بقواعد شفافة لا تمنح امتيازات حصرية لجهة واحدة. كما أن التعاون الدفاعي ضروري لضمان استقرار البلاد، لكنه يجب أن يظل تحت سقف السيادة الوطنية.
المستقبل: اختبار النوايا
من المقرر أن يزور الرئيس السوري أحمد الشرع موسكو في أكتوبر المقبل للمشاركة في القمة العربية – الروسية، وهو ما سيشكّل اختباراً حقيقياً للنوايا الروسية تجاه سوريا الجديدة.
فإذا نجحت موسكو في تقديم نفسها كشريك يحترم السيادة السورية ويساهم بصدق في إعادة الإعمار، فإن العلاقة قد تتحول إلى نموذج جديد في المنطقة. أما إذا واصلت روسيا التعامل مع سوريا كمنطقة نفوذ، فإن الصدام مع تطلعات السوريين سيكون محتوماً.
زيارة الوفد الروسي إلى دمشق ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل محطة مفصلية في رسم ملامح العلاقة بين البلدين في مرحلة ما بعد الأسد. وبين الحاجة الاقتصادية السورية، والمصالح الاستراتيجية الروسية، يقف مستقبل هذه العلاقة على خيط رفيع يفصل بين الشراكة والتبعية.
الكرة الآن في ملعب الطرفين: دمشق التي تبحث عن شركاء صادقين لبناء مستقبلها، وموسكو التي تحاول إثبات أنها ليست مجرد قوة راعية لماضٍ انهار، بل شريك في صناعة مستقبل جديد.