اتفاق نوفمبر على المحك: لبنان يعود إلى شبح حرب 2006

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.09.09 - 04:09
Facebook Share
طباعة

في تطور خطير يهدد الاستقرار الهش الذي يعيشه لبنان منذ اتفاق التهدئة أواخر 2024، قصفت طائرة مسيّرة إسرائيلية سيارة في منطقة الجية الواقعة على بعد ثلاثين كيلومتراً جنوب بيروت. السيارة دُمرت بالكامل بعدما ارتطمت بجدار مسجد في المنطقة، فيما أكدت مصادر لبنانية أن المستهدف عنصر من حزب الله. وقد انتشرت قوات الجيش اللبناني سريعاً في الموقع، لكن ألسنة اللهب والدخان الكثيف حولا المشهد إلى صورة مصغّرة عن حرب مفتوحة قد تندلع في أي لحظة.

ضربات شبه يومية: سياسة الاستنزاف الإسرائيلية

الغارة الأخيرة ليست حدثاً معزولاً، بل تأتي ضمن سلسلة من الهجمات التي تشنها إسرائيل بشكل شبه يومي على مناطق مختلفة في لبنان. تل أبيب تبرر ذلك بأنها "ضربات وقائية" تستهدف مخازن أسلحة ومعسكرات تدريب تابعة لحزب الله، وخصوصاً قوات الرضوان التي تعتبرها إسرائيل رأس الحربة في أي مواجهة برية. لكن هذه الاستراتيجية، رغم أنها تسعى لحرمان الحزب من إعادة بناء قوته بعد الحرب الأخيرة، تدفع لبنان أكثر فأكثر نحو حافة الانفجار.

اتفاق نوفمبر 2024: التهدئة المعلّقة

حين وُقّع الاتفاق بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في نوفمبر 2024، اعتُبر اختراقاً سياسياً أنهى حرباً مدمرة استمرت أكثر من عام. نص الاتفاق على انسحاب حزب الله من جنوب نهر الليطاني، وتفكيك بنيته العسكرية هناك، وحصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية، مقابل انسحاب إسرائيل من المواقع التي احتلتها خلال الحرب باستثناء خمس تلال استراتيجية. لكن الواقع على الأرض كشف هشاشة التفاهم: إسرائيل أبقت على وجود عسكري متقدم، بينما لم يلتزم حزب الله بشكل كامل ببنود التفكيك، لتبقى التهدئة أقرب إلى هدنة مؤقتة منها إلى اتفاق دائم.

الحكومة اللبنانية بين العجز والضغط الدولي

في محاولة لاستعادة زمام المبادرة، رحبت الحكومة اللبنانية مؤخراً بخطة أعدها الجيش لنزع سلاح حزب الله. ورغم أن الإعلان حمل نبرة رسمية متفائلة، إلا أن الحكومة نفسها اعترفت بأن التنفيذ سيكون ضمن إمكانيات "محدودة"، وهو ما يعني عملياً عدم قدرة الجيش على فرض سيطرته على حزب يملك ترسانة عسكرية تفوق قدراته بكثير. إبقاء تفاصيل الخطة سرية زاد الغموض، وأعطى لإسرائيل ذريعة لمواصلة الضربات بدعوى أن الدولة اللبنانية غير قادرة على ضبط الحزب.

حزب الله: بين إعادة التموضع وتثبيت الحضور

منذ نهاية الحرب الأخيرة، يسعى حزب الله إلى إعادة ترتيب صفوفه وتعويض خسائره البشرية والميدانية. لكن الغارات الإسرائيلية المتلاحقة تفرض عليه استراتيجية جديدة تقوم على "إثبات الحضور" في الميدان، حتى لو لم يرد بشكل مباشر على كل هجوم. الحزب يدرك أن أي مواجهة واسعة قد تُضعف لبنان المنهار اقتصادياً، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع القبول بسياسة الاستنزاف الإسرائيلية التي تهدد وجوده العسكري.

لبنان على خط الزلازل الإقليمي

التصعيد الإسرائيلي لا ينفصل عن السياق الإقليمي الأوسع. فالمعادلة في جنوب لبنان مرتبطة بتطورات غزة، وبالملف النووي الإيراني، وبشبكة الصراعات الممتدة من العراق إلى اليمن. أي شرارة في الجية أو البقاع قد تتحول بسرعة إلى مواجهة شاملة، لأن الساحة اللبنانية أصبحت مرآة لصراعات القوى الإقليمية والدولية.

عودة الحرب إلى الواجهة

الاستهداف الأخير قرب بيروت يحمل أبعاداً رمزية أكثر من كونه ضربة تكتيكية. فهو رسالة بأن إسرائيل مستعدة لتوسيع رقعة عملياتها حتى مشارف العاصمة، وأن حزب الله لم يعد محمياً حتى خارج الجنوب. هذا التصعيد يضع لبنان أمام مفترق طرق خطير: إما الانزلاق إلى مواجهة جديدة شبيهة بحرب 2006 أو حرب 2024، أو القبول بواقع سياسي-أمني يفرض على الدولة اللبنانية الدخول في معركة نزع سلاح الحزب، وهي معركة تبدو مستحيلة في الظروف الحالية.

حرب 2006 وإرثها العميق: كيف شكلت معالم المعركة الحالية بين حزب الله وإسرائيل؟

بداية غير مفاجئة وانفجار سريع

اندلاع الحرب في صيف 2006 لم يكن حادثاً منعزلاً، بل نتاج تراكم طويل من المواجهات الحدودية والاحتكاكات المستمرة بين القوات الإسرائيلية ومجموعات المقاومة في جنوب لبنان. الهجوم الذي تحوّل سريعاً إلى مواجهة واسعة المداه استمر نحو شهرٍ كامل وأظهر أن أي شرارة محلية قادرة على إشعال ساحة ممتدة تفوق قدرة المؤسسات الوطنية على التحكم بها. الصورة الأساسية من تلك الفترة: تحوّل حدود طويلة لسنين من توتر مكبوت إلى مسرح حرب مفتوح، مع تداعيات إنسانية وسياسية واقتصادية عميقة.

الخسائر البشرية والمادية: صدمة قدرة التحمل

ما جعل حرب 2006 مميزة ليس فقط طولها، بل شمول أضرارها: مئات القتلى والجرحى بين المدنيين والمقاتلين، نزوح واسع للسكان من الجنوب والمدن اللبنانية، وتدمير بنى تحتية راهنة — طرق، جسور، كهرباء، ومرافق عامة. المدن والقرى التي عادت بعد الحرب واجهت واقعاً اقتصادياً هشا وإجراءات إعادة إعمار بطيئة ومجزأة. هذه التجربة خلّفت لدى اللبنانيين ذاكرة جماعية قوية عن هشاشة الدولة وعجزها أمام آلة الحرب، ووضعت ضغوطاً اجتماعية وسياسية طويلة الأمد على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

تحول حزب الله من ميليشيا مقاومة محلية إلى لاعب عسكري منظّم

أهم أثر طويل المدى للحرب كان في تكيف حزب الله وتحوّله التكتيكي. قبل 2006 كان الحزب يعمل غالباً بأساليب حرب عصابات على امتداد الحدود، أما بعد الحرب فبدأ بالتحول إلى قوة قادرة على نظم وإدارة قدرات صاروخية ومخابئ لوجستية أكثر تنظيمًا، ومع ذلك أيضًا تبنّى دروساً عملية في اللامركزية والمرونة الميدانية لتقليل هشاشة قواعده أمام الضربات الجوية. تجربة 2006 علمته مفاهيم “الاستهداف المتعدد المظاهر” — توزيع المخازن، الانضمام إلى شبكات لوجستية مختلطة، وتحسين قدرات الردع غير المباشر (مثل صنوف الصواريخ المتوسطة والمدى). هذه التطورات جعلت من استهداف البنية العسكرية للحزب مهمة أكثر تعقيداً لإسرائيل في السنوات اللاحقة.

أثر الحرب على مؤسسات الدولة اللبنانية

انكشفت خلال الحرب عيوب كبيرة في قدرة الدولة: ضعف منظومة الحماية المدنية، حدودية السيطرة على جنوب لبنان، هشاشة الأجهزة الأمنية في مواجهة فاعل مسلح موازي، وغياب آليات فعالة لإدارة الكارثة الوطنية. بعد الحرب تزايدت المطالب الداخلية لإعادة بناء سلطة الدولة، لكن تلك المطالب اصطدمت بواقع سياسي معقّد: حزب يمتلك قاعدة شعبية ومؤسسات اجتماعية وخدماتية منافسة، وحكومة غير قادرة على فرض سيطرتها بالكامل دون إحداث شقاق داخلي أو مواجهة مسلحة.

الدرس الإسرائيلي: تكوين قواعد للرد والبحث عن سيطرة أوسع

من الجانب الإسرائيلي، فرضت الحرب مراجعات في مفاهيم الإدارة العسكرية والأمنية: ضرورة حماية المناطق المدنية الأمامية، تطوير نظم الإنذار والمدافع المضادة للصواريخ، وإعادة تقييم استراتيجيات الضربات الجوية مقابل نتائج إنجازية محدودة على الأرض. تجربة 2006 غذّت نقاشاً داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن الفجوات في الاستخبارات، توحيد الهدف السياسي-العسكري، وقياس التكاليف السياسية لمعارك مربحة تكتيكياً لكنها مكلفة استراتيجياً.

القرار الدولي وواجهة الأمم المتحدة: 1701 وتبعاتها العملية

انتهت الحرب بإطار سياسي-قانوني حمل اسم القرار 1701 الذي حاول فرض هدنة وإرساء قوة دولية لدعم تنفيذها، مع ترتيبات لسحب المقاتلين وفرض مناطق منزوعة السلاح جنوب الليطاني. عملياً، أدى القرار إلى انخفاض المواجهات الكبرى لكنه لم يعالج الأسباب الجذرية لوجود قوة مسلحة موازية داخل لبنان، ولم يضع آليات تنفيذية تكفي لفرض نزع السلاح. النتيجة: هدنة قابلة للانفجار، ووجود مفاهيمي لخط فصل لا يضمن السلام الدائم.

الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية: أرضية للانعكاسات الأمنية

إعادة الإعمار بعد 2006 كانت بطيئة وغير متساوية، ما عزز عامل الإحباط الشعبي وانتشار شعور بأن الدولة غير قادرة على حماية المواطنين أو تحسين معيشتهم. هذه الهشاشة الاقتصادية أصبحت عامل ضغط ينعكس في سلوك الفاعلين المسلحين والسياسيين: جماعات مثل حزب الله استفادت من شبكات الخدمات الاجتماعية والتوظيف لكسب شرعية محلية، فيما بقيت الدولة تكافح لاستعادة ولاء المواطنين عبر سياسات ضعيفة التمويل.

كيف صاغت 2006 قواعد الاحتكاك الحالية؟

الدرس الحاسم الذي ورّثته حرب 2006 إلى المشهد في 2024–2025 هو أن الحدود اللبنانية الإسرائيلية لم تعد مجرد خط فصل جغرافي، بل منصة ديناميكية للتنافس المستمر تحت سقف تهدئة هشة. التحولات التالية تبرز بوضوح: قدرة حزب الله على الحفاظ على بنى لوجستية معقّدة جعلت من استهدافه أقل وضوحاً لمنفعة تكتيكية محدّدة؛ رغبة إسرائيل في فرض نهج "الضرب الاستباقي" لتدمير القدرات قبل أن تتبلور؛ وعجز الدولة اللبنانية عن ملء الفراغ الأمني الذي يبقي الحزب في موقع القوة الفعلية في الجنوب.

أثر الذاكرة السياسية: شرعية المقاومة مقابل دولة القانون

على المستوى السياسي الداخلي، أصبحت حرب 2006 مرجعاً للخطابين المتقابلين: الأول يستخدم الذاكرة لتبرير امتلاك السلاح باعتباره درعاً ضد العدوان، والثاني يستند إلى نفس الذاكرة لانتقاد السلاح الموازٍ الذي يعرقل سيادة الدولة ويعرض السكان للخطر. هذا الانقسام يكرّس معضلة لا حلول سهلة لها: كيف تُستعاد سيادة الدولة دون تفجير شرائح شعبية ترى في سلاح الحزب حاميها الوحيد؟

مناعـة جزئية لكنها ليست أبدية

خلاصة ما خلّفته حرب 2006 أن الساحة اللبنانية تخرج منها بمنظومة مناعية جزئية: لا طرف يملك اليوم القدرة الكاملة على فرض هدوء دائم، لكن كل طرف طوّر أدواته لخفض تكلفة المواجهة المباشرة. هذا التوازن هش للغاية؛ أي تطور إقليمي أو هفوة محلية قد يعيد اللعبة إلى مربع الحرب. لذا عندما نرى الآن استهدافات متقطعة في محيط بيروت أو الجنوب، فإن صداها التاريخي يعود مباشرة إلى دروس 2006: تجربة أظهرت أن الضربة قد تُحدث تأثيراً تكتيكياً قصير الأجل ولكنها تترك آثاراً استراتيجية تمتد لسنوات وربما عقود. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 10