تدشين تاريخي بعد 14 عامًا من الجدل
افتتحت إثيوبيا رسميًا في 9 سبتمبر 2025 سد النهضة الكبير على النيل الأزرق، بعد أكثر من عقد من البناء والتجاذبات السياسية. رئيس الوزراء آبي أحمد وصف السد بأنه "إنجاز عظيم لكل السود"، مؤكدًا أنه لا يهدف إلى الإضرار بدول الجوار، بل إلى دعم المجتمعات الأفريقية السوداء. هذه الكلمات جاءت في لحظة تحتفل فيها أديس أبابا بمشروع تعتبره رمزًا للسيادة والتنمية، فيما تتابعه القاهرة والخرطوم بكثير من القلق والتحفظ.
الفخر القومي في مواجهة الانقسامات الداخلية
في الداخل الإثيوبي، يُقدَّم السد باعتباره مشروعًا جامعًا يوحّد البلاد المنقسمة. فإثيوبيا التي شهدت حربًا مدمرة في إقليم تيغراي انتهت عام 2022، ولا تزال تعاني من نزاعات في أوروميا وأمهرة، تبحث عن إنجاز وطني يعزز شرعية الدولة المركزية. وبالنسبة للسلطة الإثيوبية، فإن استكمال مشروع ضخم بهذا الحجم وسط تلك الأزمات هو إثبات قدرة على تجاوز الاضطرابات الداخلية، ورسالة بأن الدولة تسير نحو مستقبل اقتصادي جديد يقوم على الطاقة الكهرومائية.
مصر بين القلق الاستراتيجي و"التهديد الوجودي"
في المقابل، ترى القاهرة أن السد يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. فالنيل هو المصدر شبه الوحيد لمياه مصر، إذ يغطي 97% من احتياجاتها. ومع عدد سكان يتجاوز 110 ملايين نسمة، تحتاج مصر إلى نحو 114 مليار متر مكعب من المياه سنويًا، بينما لا تتجاوز مواردها الفعلية 56.6 مليار متر مكعب.
الرئيس عبد الفتاح السيسي شدد في تصريحات أخيرة على أن "الأمن المائي لمصر خط أحمر"، محذرًا من أي محاولة لانتقاص حقوقها المائية. وفي هذا السياق، كثفت القاهرة تحركاتها الدبلوماسية، عبر بناء شراكات مع دول متاخمة لإثيوبيا مثل إريتريا والصومال، لإيجاد أوراق ضغط إقليمية توازن النفوذ الإثيوبي المتنامي.
السودان بين الطموح والمخاوف
أما السودان، فيقف على خط رفيع بين الاستفادة والضرر. فالسد قد يتيح للخرطوم كهرباء رخيصة وتنظيمًا أفضل لتدفق المياه، لكنه في الوقت ذاته يهدد أمن السدود السودانية ويثير مخاوف من فيضانات أو نقص مفاجئ في المياه. لهذا، تتبنى الخرطوم موقفًا حذرًا: فهي ترفض الإجراءات الأحادية من أديس أبابا، لكنها لا تنخرط في مواجهة صدامية كاملة، مفضلة التمسك بموقف مشترك مع مصر دون تصعيد منفرد.
اتفاقية 2015: من بارقة أمل إلى وثيقة خلاف
لحظة التوقيع على إعلان المبادئ في الخرطوم عام 2015 بدت حينها بارقة أمل لحل الأزمة. فقد نص الاتفاق على مبادئ التعاون، الاستخدام المنصف للمياه، وعدم التسبب في ضرر جسيم. لكن ما بدا إطارًا للتفاهم تحوّل سريعًا إلى منصة لتبادل الاتهامات.
مصر اعتبرت أن الاتفاق يفرض على إثيوبيا تنسيقًا مسبقًا في الملء والتشغيل. أما إثيوبيا، ففسرت الإعلان على أنه تفويض مفتوح لمواصلة مشروعها وفق رؤيتها، دون التزامات ملزمة. السودان، بدوره، رأى فيه وثيقة رمزية بلا آليات عملية، ومع مرور الوقت انكشف عجزه عن حل النزاع.
إخفاق الوساطات الدولية وتراجع الحلول الدبلوماسية
منذ انطلاق المشروع، جرت محاولات متعددة للوساطة، شملت الولايات المتحدة والبنك الدولي وروسيا والإمارات والاتحاد الإفريقي. لكن جميعها انتهت إلى الفشل، بسبب تمسك كل طرف بمصالحه الجوهرية. إثيوبيا تعتبر السد مسألة سيادة وطنية غير قابلة للمساومة، بينما ترى مصر أن حصتها التاريخية خط أحمر لا يمكن تجاوزه، ويطالب السودان بضمانات فنية وأمنية لم يحصل عليها.
هذا الإخفاق يعكس أن الأزمة ليست مجرد نزاع تقني حول قواعد الملء والتشغيل، بل صراع استراتيجي على النفوذ والموارد في منطقة حساسة.
البعد الجيوسياسي للأزمة: أكثر من مجرد سد
لم يعد سد النهضة مشروعًا تنمويًا محصورًا في الداخل الإثيوبي، بل تحوّل إلى ورقة جيوسياسية ضخمة تعيد تشكيل موازين القوى في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. فالمشروع الذي بدأ كخطة لإنتاج الكهرباء وتحقيق الاكتفاء الطاقي لإثيوبيا، أصبح اليوم ساحة تتقاطع فيها مصالح الدول الإقليمية والقوى الكبرى على حد سواء.
إثيوبيا: طموح القوة الإقليمية الصاعدة
بالنسبة لأديس أبابا، السد ليس مجرد منشأة مائية، بل أداة للتمكين الإقليمي. فمن خلاله تسعى إثيوبيا إلى فرض نفسها قوة مركزية في إفريقيا الشرقية، قادرة على التحكم في منابع النيل الأزرق الذي يغذي مصر والسودان بالمياه. هذه الورقة تمنحها نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا غير مسبوق، وتتيح لها استخدام المياه والطاقة كأدوات ضغط ومساومة في ملفات إقليمية معقدة، سواء كانت أمنية أو اقتصادية أو حتى حدودية.
مصر: إعادة التموضع في القرن الإفريقي
في المقابل، تجد مصر نفسها مضطرة لإعادة النظر في حضورها الإقليمي. فالأمن المائي بالنسبة للقاهرة لم يعد قضية داخلية فقط، بل مسألة أمن قومي ممتد إلى القرن الإفريقي والبحر الأحمر. ولهذا كثفت مصر تحركاتها السياسية والعسكرية في الإقليم، عبر تعزيز التعاون مع دول مثل إريتريا والصومال، ودعم علاقاتها مع جيبوتي وجنوب السودان. الهدف من هذه الاستراتيجية هو محاصرة النفوذ الإثيوبي وخلق شبكة تحالفات إقليمية تعيد التوازن إلى معادلة القوة في المنطقة.
القوى الكبرى: مصالح متشابكة ورهانات متعارضة
لم يقتصر الاهتمام بسد النهضة على دول حوض النيل، بل امتد إلى القوى الدولية الكبرى التي ترى في المشروع مدخلًا للتأثير في مستقبل القرن الإفريقي:
الولايات المتحدة تنظر إلى السد باعتباره أداة يمكن توظيفها في لعبة التوازنات مع الصين، إذ تدعم أحيانًا الموقف الإثيوبي كجزء من شراكتها الأمنية مع أديس أبابا، لكنها أيضًا تحافظ على قنواتها المفتوحة مع القاهرة.
الصين تستثمر بكثافة في مشاريع البنية التحتية الإثيوبية، وترى في السد فرصة لزيادة نفوذها الاقتصادي وربطه بمبادرة "الحزام والطريق"، ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا لإثيوبيا.
روسيا تسعى إلى استغلال الأزمة لتعزيز حضورها في إفريقيا الشرقية، حيث ترى أن الدخول على خط الوساطة أو التعاون العسكري مع دول المنطقة قد يمنحها موطئ قدم مهمًا على سواحل البحر الأحمر، التي تمثل واحدة من أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في العالم.
ورقة ضغط إقليمية ذات بعد دولي
بهذا الشكل، تجاوز سد النهضة كونه مشروعًا وطنيًا ليصبح محورًا لصراع نفوذ متعدد المستويات: داخلي بين القوى الإثيوبية، إقليمي بين دول حوض النيل، ودولي بين القوى الكبرى المتنافسة على إفريقيا. وهو ما يرفع من خطورة الأزمة، ويجعلها ليست مجرد قضية "مياه وتنمية"، بل معادلة استراتيجية قد تحدد مستقبل الأمن والاستقرار في منطقة القرن الإفريقي والشرق الأوسط معًا.
بين التنمية المشتركة والصراع الوجودي
رغم محاولات آبي أحمد تقديم السد كفرصة للتنمية الإقليمية، فإن غياب اتفاق ملزم يجعل المخاوف قائمة. فمصر والسودان يعتبران أن وعود أديس أبابا لا تكفي لضمان الأمن المائي، وأن الملء الأحادي للخزان دليل على سياسة فرض الأمر الواقع.
وهكذا، يبقى السد بالنسبة لإثيوبيا رمزًا للنهضة والتنمية، بينما يراه المصريون والسودانيون قنبلة مائية موقوتة قد تنفجر في أي لحظة إذا لم يتم التوصل إلى تفاهم ملزم وعادل.
تدشين سد النهضة يمثل نقطة تحوّل كبرى في مسار الأزمة. إثيوبيا ربحت جولة التدشين، ومصر والسودان يواجهان تحديًا وجوديًا مع واقع جديد مفروض بالقوة. الأزمة باتت أكبر من مجرد نزاع مائي، إذ دخلت مرحلة صراع على النفوذ والهوية والسيادة في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يكون سد النهضة قاطرة للتكامل الإفريقي، أم يتحوّل إلى بؤرة صراع وجودي تهدد استقرار وادي النيل لعقود قادمة؟