الليرة السورية بين الانفتاح والاضطراب: رحلة البحث عن الاستقرار

رزان الحاج

2025.09.09 - 10:29
Facebook Share
طباعة

 منذ سقوط النظام السابق والتحولات السياسية والاقتصادية التي أعقبت ذلك، شكّلت الليرة السورية بوصلة لقياس عمق الأزمة الاقتصادية وحدود التفاؤل الممكن. فبين الانفتاح الاقتصادي ورفع العقوبات الدولية، بدا المشهد وكأن العملة الوطنية في طريقها إلى استعادة عافيتها. إلا أن الواقع أظهر صورة مغايرة: تأرجح متواصل في أسعار الصرف، دون الوصول إلى حالة الاستقرار التي ينتظرها المواطن والتاجر والمستثمر على حد سواء.


تقلبات عشرة أشهر: انتعاش قصير وتذبذب طويل
منذ بداية كانون الأول 2024 وحتى خريف 2025، شهدت الليرة السورية مساراً متعرجاً يفتقر إلى الاستقرار. فمع التحرير وتشكيل حكومة جديدة، حاول المصرف المركزي ضخ جرعة ثقة في الأسواق عبر اعتماد سعر صرف موحد. وسرعان ما انعكس ذلك على السوق السوداء التي سجلت تراجعاً حاداً في سعر الدولار، حتى لامس 13 ألف ليرة في بعض المدن.


لكن هذا التحسن لم يدم طويلاً، إذ عادت الليرة إلى التراجع خلال أسابيع قليلة، لتدخل في موجات متكررة من الصعود والهبوط. ورغم أن هذه التقلبات لم تصل إلى حد الانهيار الشامل، إلا أنها عمّقت أزمة الثقة بالعملة الوطنية، ودفعت المواطن السوري إلى البحث عن بدائل أكثر أماناً كالذهب والدولار والعقارات.


الانفتاح الاقتصادي: خطوة ناقصة بلا قاعدة إنتاجية
يُجمع المراقبون على أن الانفتاح الاقتصادي وحده لم يكن كافياً لدفع الليرة نحو الاستقرار. فغياب قاعدة إنتاجية حقيقية يجعل الاقتصاد السوري معتمداً بشكل شبه كامل على الاستيراد، ما يولّد طلباً دائماً ومتزايداً على الدولار. وبغياب صادرات قادرة على توفير القطع الأجنبي، تبقى السوق تحت رحمة المضاربات والتدفقات المالية غير المنتظمة.


إلى جانب ذلك، لا تزال البنية التحتية ضعيفة، والقطاع المصرفي غير مهيأ للتعامل بانفتاح كامل مع النظام المالي الدولي. وبالتالي، فإن أي قرار بتحرير الاقتصاد أو رفع العقوبات يفقد أثره إذا لم يقترن بإصلاحات شاملة في الإنتاج والتجارة والنظام المالي.


المضاربة والسوق السوداء: اللاعب الخفي
رغم محاولات المصرف المركزي تبني سياسة "التعويم الموجّه"، فإن السوق السوداء لا تزال المهيمن الأكبر على حركة الصرف. حيث تعمل قوى مالية تمتلك سيولة ضخمة على تحريك السعر وفق مصالحها، محققة أرباحاً سريعة على حساب الاستقرار النقدي.


هذا الواقع جعل السياسات النقدية أشبه بمحاولات لإبطاء التدهور أكثر من كونها أدوات لإحداث استقرار حقيقي. فالتدخلات المباشرة ورفع معدلات الفائدة وتوحيد الأسعار لم تفلح في خلق سوق شفافة، بل بقيت السوق السوداء اللاعب الأكثر تأثيراً.


أزمة ثقة شعبية: الليرة عملة متآكلة
التجارب المتكررة عمّقت أزمة الثقة بين المواطن والليرة. فقد باتت قيمتها الشرائية تتآكل بسرعة، في ظل التضخم وارتفاع الأسعار. هذا ما دفع كثيرين إلى التعامل بالدولار مباشرة في عقود البيع والشراء، أو تحويل مدخراتهم إلى ذهب وعقارات.


بالنسبة للسوري العادي، لم تعد الليرة تمثل وعاءً آمناً للمدخرات، بل وسيلة يومية للتبادل لا أكثر. استعادة هذه الثقة تتطلب إنجازات اقتصادية ملموسة على أرض الواقع، وليس مجرد قرارات إدارية أو تصريحات متفائلة.


سياسات نقدية بفعالية محدودة
المصرف المركزي حاول في مراحل عدة ضبط السيولة عبر تقييد السحوبات ورفع أسعار الفائدة وتقييد تمويل الاستيراد. هذه الإجراءات ساعدت على تهدئة السوق لفترات قصيرة، لكنها لم تعالج الأسباب البنيوية للأزمة. بل على العكس، أدت أحياناً إلى شلل في حركة التجارة وصعوبات لدى الصناعيين والتجار.


ويشير اقتصاديون إلى أن أي سياسة نقدية لا يمكن أن تحقق نجاحاً مستقراً ما لم تستند إلى احتياطيات قوية من النقد الأجنبي، وما لم تكن جزءاً من منظومة اقتصادية متكاملة تشمل الإنتاج والصادرات وضبط العجز المالي.


الليرة كسلعة: معادلة جديدة بعد التحرير
منذ رفع التجريم عن التعامل بغير الليرة السورية، تحولت العملة الأمريكية إلى سلعة تباع وتشترى بحرية في الأسواق. هذا التغيير ساهم في إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والعملة المحلية، حيث لم يعد الاحتفاظ بالليرة مصدراً دائماً للقلق كما كان في السابق.


ومع ذلك، فإن هذا "التحرير النقدي" جعل سعر الصرف أكثر عرضة للتأثر بالعوامل السياسية والعسكرية، إلى جانب العوامل الاقتصادية. فالتقلبات لم تعد مرتبطة حصراً بحجم الإنتاج أو التجارة، بل باتت تتأثر بالاضطرابات الأمنية والقرارات الحكومية والمزاج العام في الشارع.


شروط الاستقرار الحقيقي
رغم التعقيدات، يرى اقتصاديون أن الاستقرار ليس حلماً بعيد المنال، لكنه يتطلب خطوات متكاملة، أهمها:
تعزيز الإنتاج المحلي وتوسيع قاعدة الصادرات.
إصلاح النظام المصرفي ودمج سوريا في المنظومة المالية الدولية.
استقطاب استثمارات خارجية حقيقية ترفد الاقتصاد بالقطع الأجنبي.
تخفيض العجز المالي وضبط الإنفاق الحكومي.
تبني سياسة اقتصادية شفافة تستعيد ثقة المواطن والمستثمر.


فقط عندما يشعر المواطن بأن دخله كافٍ لتلبية احتياجاته الأساسية، وعندما يرى المستثمر بيئة أعمال مستقرة، يمكن الحديث عن ليرة مستقرة وعن سعر صرف متوازن.


الخلاصة: مرآة الاقتصاد المعقد
الليرة السورية اليوم ليست مجرد عملة وطنية، بل مرآة دقيقة تعكس عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية. تأرجحها المستمر يكشف هشاشة البنية الإنتاجية، وضعف الثقة الشعبية، وهيمنة العوامل غير الاقتصادية على المشهد النقدي.


ورغم أن بعض المؤشرات تبعث على التفاؤل، مثل عودة جزء من الثقة إلى التعامل المحلي، إلا أن الاستقرار الحقيقي يظل رهناً بإصلاحات جذرية تطال الاقتصاد والمجتمع والدولة معاً.


حتى ذلك الحين، ستبقى الليرة السورية في حالة تأرجح بين الانفتاح والاضطراب، بلا انهيار شامل، ولكن أيضاً بلا استقرار مستدام.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 1