برزت العشائر السورية في السنوات الأخيرة كقوة يصعب تجاوزها في المشهد السياسي والعسكري، بعدما كانت مكوّنًا اجتماعيًا ظل لسنوات طويلة خارج الحسابات المباشرة لمراكز القرار. ومع تصاعد الأحداث وتراجع سلطة الدولة في مساحات واسعة من البلاد، أخذت هذه البنى التقليدية دورًا متناميًا، جعلها طرفًا مؤثرًا في موازين القوى، بل وفي مسارات السلم والحرب معًا.
حضور متجدد في مرحلة حرجة
أظهرت الاشتباكات الأخيرة في محافظة السويداء أن العشائر لم تعد مجرد مكوّن اجتماعي محافظ على تقاليدها، بل تحولت إلى قوة فعلية يمكنها ترجيح كفة أي طرف. الدولة السورية بدورها بدت وكأنها تعيد تموضعها تجاه هذه القوة، فبينما تلجأ أحيانًا إلى الصمت إزاء تحركات العشائر، فإنها في أحيان أخرى تبدي دعمًا وانتقائية في المواقف، بما يعكس إدراكها لأهمية الدور القبلي في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة.
يُنظر إلى العشائر باعتبارها أداة تكاملية في ظل الفراغ الأمني الذي تعيشه البلاد، بينما يراها آخرون ذراعًا رئيسيًا تستخدمه السلطات لتعزيز سيطرتها وإعادة إنتاج شرعيتها. هذه القراءة المزدوجة تفسر جزئيًا عودة الهوية القبلية للواجهة، ليس فقط عند القيادات، بل أيضًا على مستوى القواعد الشعبية التي استعادت شعورًا بالانتماء إلى مكوّن يوفّر لها الحماية والأمان.
حائط صد وقوة ضاربة
خطابات الدولة السورية الأخيرة ركزت على تمجيد دور العشائر واعتبارها "حائط صد" أمام التهديدات الداخلية والخارجية. وأكدت أن العشائر، بما تمثله من قيم اجتماعية وتقاليد متجذرة، لعبت تاريخيًا دورًا في الدفاع عن الأرض ومساندة المظلومين، وأنها ستبقى شريكًا في الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.
لكن هذا الدور لا يُلغي أهمية الدولة نفسها، التي تذكّر دائمًا بأنها صاحبة الحق الحصري في امتلاك القوة وتنظيم السلاح. ومن هنا يظهر التوازن الدقيق بين استثمار الدولة في قوة العشائر من جهة، والحفاظ على هيبة مؤسساتها من جهة أخرى.
فراغ أمني يعزز النفوذ
السنوات الماضية أفرزت واقعًا جديدًا؛ فالأجهزة الأمنية والعسكرية لم تعد قادرة على تغطية كامل الأراضي السورية. هذا الفراغ جعل من التعبئة القبلية خيارًا عمليًا لملء الفجوات، سواء عبر التسلح أو عبر التنظيم الاجتماعي الذي يحافظ على شكل من أشكال النظام الأهلي.
وبينما يرى البعض أن الدولة "تضطر" إلى دعم العشائر نظرًا لتراجع كوادرها الأمنية، يعتبر آخرون أن الأمر يمثل فرصة للتكامل، إذ إن العشائر قادرة على أن تكون شريكًا في تعزيز السلم الأهلي، إلى جانب المؤسسات الرسمية.
خريطة القبائل السورية
توزع العشائر في سوريا يوضح حجم حضورها وانتشارها:
- العقيدات: تنتشر في دير الزور وتمتد نحو حمص وحلب ودمشق، ولها امتداد في العراق.
- البقارة: متركزة في دير الزور الغربي والحسكة وحلب، مع امتداد نحو الأردن والعراق.
- الجبور: من أبرز قبائل الحسكة، ولها وجود في الشدادي وحلب.
- طي: تحالف واسع من القبائل في القامشلي، يمتد نفوذه نحو إدلب وحلب والجنوب.
- البوشعبان: متواجدة في حلب وإدلب والرقة والبادية ودير الزور، ولها امتداد في تركيا.
- الموالي: تاريخ طويل وانتشار في ريف حماة وحلب وإدلب والرقة.
- قيس: ذات انتشار واسع وتشمل عدة عشائر بارزة.
- النعيم: واسعة الانتشار بين الشمال والجنوب السوري والبادية.
إلى جانب هذه القبائل الكبرى، هناك عشائر أخرى مؤثرة مثل شمر، الدليم، بني خالد، بني سعد، عنزة، وغيرها، وكلها تمتد خارج الحدود نحو العراق والأردن ولبنان والخليج واليمن.
استمالة العشائر.. بين الحكومة و"قسد"
الواقع المتشظي جعل العشائر محط استقطاب من مختلف القوى. الدولة السورية تسعى إلى ضمان ولاء هذه القوة واحتوائها، بينما تحاول "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) استمالة بعض العشائر في مناطق سيطرتها عبر مؤتمرات وتصريحات تؤكد أنها شريك في الاستقرار وليست مجرد أداة عسكرية.
لكن سرعان ما تتبدى التناقضات، إذ أعلنت قبائل بارزة النفير العام ضد "قسد"، متهمة إياها بمحاولة فرض نفوذها بالقوة والسلاح، في حين ترفض بعض العشائر الأخرى الدخول في مواجهة مفتوحة وتفضّل التفاوض أو الحياد.
التوتر بلغ ذروته في السنوات الأخيرة مع اندلاع اشتباكات في ريف دير الزور الشرقي بين "قسد" ومجموعات عشائرية مسلحة. هذه المواجهات كشفت هشاشة التحالفات القائمة، وأظهرت أن ولاء العشائر ليس ثابتًا، بل قابل للتغيير وفق الظروف والمصالح.
ورقة ضغط سياسية
تدرك الدولة أن استمالة العشائر تمنحها أوراق قوة إضافية في أي مفاوضات مستقبلية، سواء مع "قسد" أو مع قوى خارجية. العشائر هنا تتحول إلى أداة ضغط داخلية يمكن توظيفها، دون الحاجة إلى مواجهة شاملة أو حرب واسعة النطاق.
وفي المقابل، تحاول "قسد" أن تثبت أنها تمتلك حاضنة شعبية، غير أن كثيرين يرون أن هذه الحاضنة مشروطة بظروف القوة الميدانية، وليست خيارًا حرًا بالكامل.
احتمالات الصراع والتفاوض
رغم التوتر المتكرر، تبدو احتمالية اندلاع حرب شاملة بين الدولة و"قسد" ضعيفة في المدى القريب. فالتفاوض يظل خيارًا مفضلًا للطرفين، خاصة في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية المحيطة بالملف السوري. ومع ذلك، لا يُستبعد أن تشهد بعض المناطق مواجهات محدودة، تُستخدم فيها العشائر كورقة ضغط ميدانية.
المعادلة هنا دقيقة: الدولة لا ترغب في إظهار نفسها كمن يشعل صراعًا داخليًا عبر تسليح العشائر، لكنها في الوقت ذاته تترك الباب مفتوحًا أمام تعبئتها إذا استدعت الظروف.
بين السلم الأهلي والفزعة القبلية
الهوية القبلية تحمل بداخلها قيم "الفزعة" والنخوة، وهي قيم تجعل من حمل السلاح دفاعًا عن النفس أو الأرض أمرًا مشروعًا من وجهة نظر العشائر. هذه الثقافة تعزز من قدرة القبائل على التحرك السريع، لكنها في الوقت ذاته قد تضع الدولة أمام تحدي ضبط هذه القوة غير الرسمية، بما يضمن أن تبقى أداة حماية لا مصدرًا للفوضى.
المطلوب، بحسب مراقبين، هو إدارة هذه القوة بعقلانية، ومنع الانتهاكات التي قد تدفع العشائر إلى المواجهة المسلحة. فكلما تعزز حضور القانون والعدالة، كلما تراجعت دوافع العشائر لاستخدام السلاح لحماية نفسها.
نحو أي مستقبل؟
المشهد الحالي يشير إلى أن العشائر ستبقى لاعبًا رئيسيًا في مستقبل سوريا. فهي قادرة على ترجيح كفة التفاوض أو المواجهة، وهي كذلك قوة اجتماعية يصعب على أي طرف تجاهلها.
ومع استمرار الفراغ الأمني وتعدد القوى المسلحة، ستظل العشائر في موقع حاسم، إما كشريك للدولة في إعادة الاستقرار، أو كقوة مستقلة تتحرك وفق مصالحها وتوازناتها الخاصة.