منذ اللحظة التي خرج فيها دونالد ترامب ليعلن أن إسرائيل وافقت على "مقترحه الأخير" لوقف إطلاق النار في غزة، بدا أن الملف قد دخل مرحلة جديدة من التعقيد والتجاذب. ترامب لم يكتفِ بالحديث عن صفقة تشمل الأسرى ووقف الحرب، بل صاغ الأمر في إطار تحذيري لحماس، قائلاً إن هذه هي "الفرصة الأخيرة". هنا تحركت كل الأطراف: حماس أصدرت ردًا سريعًا مشروطًا، إسرائيل التزمت الصمت الرسمي مع تسريبات رافضة، ومصر وقطر اندفعتا لتثبيت دورهما كوسيطين مركزيين. هكذا وجدنا أنفسنا أمام مشهد إقليمي تتداخل فيه التهديدات الأميركية، والحسابات الإسرائيلية، وحسابات المقاومة، مع طموحات الوساطة العربية.
ترامب: صفقة مشروطة وتحذير معلن
ترامب، الذي يسعى لإعادة تثبيت حضوره السياسي على الساحة الدولية، قدّم نفسه كعرّاب لاتفاق شامل. بنود المبادرة تضمنت إطلاق حماس لكل الأسرى الإسرائيليين والجثث لديها، مقابل إفراج إسرائيل عن ما يقارب ثلاثة آلاف أسير فلسطيني، بينهم أصحاب أحكام عالية بالمؤبد. ثم يليه وقف فوري لإطلاق النار، تمهيدًا لمفاوضات لاحقة حول نزع سلاح حماس ومستقبل غزة. لكن النقطة الأكثر إثارة كانت لغة التهديد المباشرة: "هذا تحذيري الأخير لحماس". بدا واضحًا أن ترامب لم يكن يوجّه رسالة للحركة وحدها، بل أيضًا لإسرائيل والعالم، بأنه وحده القادر على فرض "الحل"، حتى وإن كان ذلك عبر الضغوط القصوى.
حماس: قبول مشروط وإصرار على الضمانات
رد حماس لم يكن رفضًا مباشرًا ولا قبولًا مطلقًا. الحركة أكدت أنها "جاهزة فورًا للجلوس إلى طاولة المفاوضات"، لكنها ربطت هذا القبول بجملة من الشروط: أولها إعلان واضح بوقف الحرب، وثانيها انسحاب إسرائيلي كامل من القطاع، وثالثها تشكيل لجنة فلسطينية من المستقلين لتسلم إدارة غزة فورًا. الأهم من ذلك أن حماس شددت على ضرورة وجود "ضمانة معلنة وصريحة" بأن إسرائيل ستلتزم بما يتم الاتفاق عليه، في إشارة صريحة إلى التجارب السابقة التي وصلت فيها التفاهمات إلى مراحل متقدمة قبل أن تتراجع تل أبيب. الحركة أيضًا ذكّرت بأنها وافقت في أغسطس بالقاهرة على مقترح مشابه برعاية مصرية وقطرية، لكن إسرائيل لم تقدّم أي رد حتى اليوم.
إسرائيل: رفض غير معلن وضغوط داخلية
بينما تباهى ترامب بأن إسرائيل قبلت مقترحه، لم يصدر عن الحكومة الإسرائيلية موقف رسمي يؤكد ذلك. بالعكس، سرّبت القناة 12 العبرية أن تل أبيب رفضت رد حماس، معتبرة أن الحركة لم تقترب من شرطها الأساسي: "تسليم السلاح". هذا الرفض غير المعلن يعكس مأزق القيادة الإسرائيلية؛ فهي من جهة لا تستطيع تجاهل الضغوط الأميركية، خصوصًا بعد تهديدات ترامب، ومن جهة أخرى تواجه رفضًا داخليًا واسعًا لأي تنازلات قد تُفسَّر كـ"انتصار لحماس". ومع استمرار العمليات العسكرية، يبدو أن إسرائيل تحاول اللعب على عامل الوقت، لعلّ استمرار الضغط العسكري يمنحها أفضلية تفاوضية.
مصر وقطر: وساطة دقيقة على حافة التناقضات
الدور المصري–القطري عاد بقوة إلى الواجهة مع هذا التطور. القاهرة رأت في مقترح ترامب فرصة لإحياء مسار التهدئة، مؤكدة أن الأولوية الآن لإدخال المساعدات الإنسانية وفتح معبر رفح تحت إشراف واضح. بالنسبة لمصر، أي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون مدخلًا لإعادة إعمار القطاع ضمن آلية رقابة محكمة. أما قطر، فاعتبرت أن المبادرة الأميركية يمكن أن تكون أساسًا عمليًا للتفاوض، وأكدت استمرار اتصالاتها مع حماس وإسرائيل والولايات المتحدة. كل من الدوحة والقاهرة تحاولان تثبيت موقعهما كوسيط لا يمكن تجاوزه، لكنهما في الوقت نفسه تسيران بين خطوط حمراء متناقضة: إسرائيل التي تصر على شرط السلاح، وحماس التي ترفض أي نقاش قبل وقف الحرب.
حسابات متباينة
على الصعيد العربي، رفضت الجامعة العربية أي طرح يتضمن تهجير الفلسطينيين، مؤكدة أن الحل يكمن في إعادة إعمار غزة وتعزيز صمود سكانها. السعودية شددت على أن الطريق الحقيقي للاستقرار يمر عبر إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فيما أكدت الأردن رفضها استقبال أي فلسطينيين في إطار مقترحات الترحيل التي ألمح إليها ترامب في وقت سابق. أوروبيًا، عبّرت دول الاتحاد عن قلقها من استمرار الحرب، لكنها حذرت من أي ترتيبات تهدد التركيبة السكانية للقطاع، في حين دعا المجتمع الدولي عمومًا لوقف فوري للنار وتوفير ممرات آمنة للمساعدات.
بين ورقة الأسرى وضغط الوقت
يتضح من مجمل المواقف أن ملف الأسرى هو العقدة المركزية في أي مفاوضات. بالنسبة لإسرائيل، استعادة الأسرى أولوية وطنية لا يمكن التهاون بها، بينما ترى حماس أنها الورقة الأقوى في يدها لتحقيق مكاسب سياسية وإنسانية. في المقابل، يواجه الوسطاء العرب معضلة مزدوجة: كيف يُلزمون إسرائيل بوقف الحرب في ظل رفضها العلني لشروط حماس، وكيف يُقنعون الحركة بتقديم تنازلات تحت التهديد الأميركي. وبذلك، يصبح مصير المبادرة مرهونًا بقدرة واشنطن على ممارسة ضغط فعلي على تل أبيب، وليس فقط على حماس، وإلا فإن جولة المفاوضات الحالية قد تنتهي كسابقاتها دون نتائج ملموسة.
سيناريوهات مفتوحة
بعد عامين من الحرب، لا تبدو الطريق إلى التهدئة ممهدة. ترامب يريد إنجازًا سياسيًا يرفع من رصيده الدولي، حماس تبحث عن ضمانات توقف نزيف الدم وتحفظ مكاسبها، إسرائيل تراهن على القوة، ومصر وقطر تسعيان لتثبيت موقعهما كوسطاء. المشهد الحالي لا يشير إلى حلّ وشيك، لكنه يؤكد أن معركة غزة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحولت إلى اختبار إقليمي ودولي لإرادات متصارعة. ما سيحدث في الأسابيع المقبلة سيحدد إن كان هذا "التحذير الأخير" من ترامب سيترجم إلى اتفاق، أم سيكون مجرد محطة أخرى في مسار طويل من المراوغة السياسية.