قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الأخير الذي اعتبر أن الحكومة فشلت في توفير الغذاء الكافي للأسرى الفلسطينيين، فتح واحداً من أكثر الملفات حساسية في المشهد الإسرائيلي–الفلسطيني: ملف تجويع الأسرى.
ورغم أن الحكم يُعدّ سابقة قضائية نادرة خلال حرب مستمرة منذ قرابة عامين، إلا أن دلالاته تتجاوز البعد القانوني. فهو يكشف عن سياسة ممنهجة تبنّاها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لتقليص ظروف المعيشة إلى "الحد الأدنى"، وهو ما أفضى إلى معاناة إنسانية جسيمة، ووفيات موثقة رسمياً داخل السجون.
خلفية قانونية للحكم
المحكمة العليا أصدرت حكمها في 7 سبتمبر 2025، بعد التماس تقدمت به جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل ومنظمة "جيشا" الحقوقية. الالتماس استند إلى تقارير ميدانية وشهادات أسرى سابقة، تؤكد أن حصص الطعام داخل السجون لا تكفي للعيش، بل تتسبب في سوء تغذية ومضاعفات صحية خطيرة.
هيئة المحكمة، المكونة من ثلاثة قضاة، أجمعت على أن الدولة ملزمة قانوناً بتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم، بينما رأت أغلبية 2 من أصل 3 أن "المؤشرات المتاحة تبرهن على أن الإمدادات الحالية لا تضمن تلبية تلك المعايير". هذا الموقف يضع الحكومة أمام مسؤولية مباشرة، ويفضح تناقضاً بين التشريعات الإسرائيلية وبين التطبيق الميداني داخل السجون.
سياسة العقاب الغذائي
منذ اندلاع الحرب في غزة، تحولت إدارة السجون إلى ساحة اختبار لسياسات بن غفير. فالرجل الذي يقود حزباً يمينياً متطرفاً أعلن منذ البداية أنه سيعيد ظروف الأسرى "إلى الحد الأدنى الذي يفرضه القانون".
هذه السياسة تُرجمت عملياً في:
تقليص عدد الوجبات أو دمجها في وجبة واحدة رئيسية.
حذف عناصر غذائية أساسية مثل الفواكه واللحوم الطازجة.
تقليص كميات الخبز والخضروات.
منع دخول بعض الأغذية الإضافية التي كانت تصل عبر الكنتين.
هذه الإجراءات لم تكن قرارات إدارية عابرة، بل جرى الترويج لها في خطابات رسمية باعتبارها "انتصاراً على امتيازات الأسرى". لكن النتائج على الأرض كانت كارثية، مع انتشار مظاهر الهزال، فقدان الوزن الحاد، وظهور حالات إغماء داخل الزنازين.
الأدلة الطبية والوفيات
أخطر ما وثقته المنظمات الحقوقية تمثل في حالة وفاة فتى فلسطيني (17 عاماً) في مارس الماضي داخل سجن ميجدّو. تقرير الأطباء أفاد بوجود علامات واضحة على سوء تغذية، ورجّح أن الجوع كان السبب المباشر للوفاة.
إلى جانب هذه الحالة، سُجلت تقارير عن عشرات الأسرى الذين فقدوا ما بين 10 و20 كيلوغراماً من أوزانهم خلال فترات قصيرة من الاعتقال. بعضهم أُفرج عنه وأكد أن الطعام المقدم "لا يتجاوز الخبز والشاي"، وأحياناً "حفنة من الأرز المسلوق بلا إضافات".
المنظمات الحقوقية وصفت الوضع بأنه "معسكرات تعذيب"، بينما أطباء مستقلون حذروا من أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى موجة وفيات جديدة.
تداعيات سياسية داخل إسرائيل
الحكم فجّر جدلاً واسعاً داخل الساحة الإسرائيلية.
بن غفير هاجم القضاء قائلاً: "المحكمة تدافع عن مقاتلي حماس بينما لا أحد يدافع عن الرهائن". تصريحاته اعتُبرت تحدياً مباشراً لسلطة القضاء.
المعارضة الإسرائيلية رأت أن استمرار سياسة العقاب الجماعي عبر الغذاء لا يخدم الأمن، بل يعزز عزلة إسرائيل دولياً.
الحكومة حاولت التخفيف من وقع القرار عبر القول إن "التغييرات ستُدرس"، لكن مراقبين توقعوا مقاومة شرسة من وزارة الأمن القومي لتنفيذ الحكم.
البعد الدولي والحقوقي
القضية تتجاوز البعد المحلي. فالقانون الدولي يصنّف الحرمان المتعمد من الغذاء على أنه "معاملة لاإنسانية" قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب إذا ارتُكبت بشكل ممنهج.
منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وثقتا أن إسرائيل تحتجز آلاف الفلسطينيين في ظروف غير إنسانية، تشمل سوء التغذية، غياب الرعاية الطبية، والاكتظاظ.
الحكم القضائي الإسرائيلي قد يستخدم كدليل إدانة ضد الحكومة في المحافل الأممية، حيث يُظهر أن أعلى سلطة قضائية داخل إسرائيل نفسها تعترف بوجود خرق واضح للمعايير الإنسانية.
الأسرى بين القانون والسياسة
الملف يضع إسرائيل أمام معادلة معقدة: هل تتعامل مع الأسرى باعتبارهم "مقاتلين أعداء" بلا حقوق، أم كأسرى يخضعون للقوانين الدولية؟
السياسات الأخيرة ترجّح الخيار الأول، لكن الحكم القضائي يذكّر بأن هناك التزامات قانونية لا يمكن تجاهلها.
بالنسبة للفلسطينيين، القضية أكبر من الطعام ذاته؛ إنها تتعلق باستخدام السجون كأداة حرب نفسية وسياسية تهدف إلى تفكيك المجتمع من الداخل عبر إذلال الأسرى.
حكم المحكمة العليا قد لا يغير الواقع سريعاً، لكنه يكشف عن شرخ عميق بين القانون والسياسة داخل إسرائيل. فبينما يؤكد القضاء أن للأسير الحق في الحد الأدنى من العيش، تصر الحكومة على أن التضييق جزء من معركتها مع الفلسطينيين.
السؤال المطروح الآن: هل يمكن أن تُترجم هذه السابقة القضائية إلى تغيير فعلي، أم أنها ستظل حبراً على ورق في ظل نفوذ بن غفير والتيار اليميني المسيطر؟
الأكيد أن تجويع الأسرى لم يعد سراً، بل أصبح حقيقة موثقة قانونياً، وطعناً جديداً في صورة إسرائيل على الساحة الدولية.