لم يكن المشهد اللبناني بعد جلسة الحكومة الأخيرة مجرّد محطة عابرة في روزنامة السياسة الداخلية، بل لحظة كاشفة لما هو أبعد من النقاش التقني حول خطة الجيش لنزع سلاح المقاومة. فبينما شعر البعض بالارتياح لغياب الانفجار الأمني الذي جرى التلويح به، بقيت الأسئلة الجوهرية مطروحة حول حقيقة الموقف اللبناني، وحدود ما يمكن أن تفعله السلطة في ملف يتجاوز حدودها الداخلية نحو حسابات إقليمية ودولية معقدة.
المقاومة: موقف واضح لا لبس فيه
منذ البداية، أعلنت المقاومة بوضوح رفضها الانخراط في أي نقاش يهدف إلى نزع سلاحها، معتبرة أنّ هذا السلاح ليس ملفاً قابلاً للمساومة، بل حاجة استراتيجية لحماية لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة. وقد كثّفت تواصلها مع أركان الدولة وقائد الجيش لتوضيح موقفها، محذّرة من محاولة جرّ المؤسسة العسكرية إلى مواجهة داخلية ستكون عواقبها كارثية.
المواقف التي أطلقها الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم جاءت لتقطع الطريق على التأويلات، وتضع النقاش في مساره الحقيقي: سلاح المقاومة خارج إطار المساومة الداخلية، وأي محاولة لفرض عكس ذلك ستعني إدخال البلاد في مواجهة مفتوحة.
بري بين هواجس الطائفة وحسابات الدولة
إلى جانب المقاومة، برز موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي بات أكثر صراحة في التعبير عن هواجسه. فبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، بدا بري مشغولاً بمصير الطائفة الشيعية في لبنان وسط المتغيرات الإقليمية، أقرب في هذه المرحلة إلى مقاربة وليد جنبلاط حول "قلق الجماعة الصغيرة".
غير أن بري، بخلاف جنبلاط، ليس زعيماً لقبيلة، بل شريك في معادلات إقليمية ودولية، وهو يدرك أن أي مغامرة تمسّ السلاح ستنعكس مباشرة على بيئته السياسية والاجتماعية. ومن هنا جاء اهتمامه الخاص بموقف إيران، وصولاً إلى لقائه الأخير بمستشار الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني الذي نقل رسالة واضحة من المرشد علي الخامنئي تؤكد استمرار الدعم الكامل للمقاومة.
الحكومة بين الحسابات والتجاذبات
في المقابل، حاول الرئيسان جوزيف عون ونواف سلام تقديم موقف مرن يراعي الضغوط الخارجية، إلا أنّ حساباتهما اصطدمت بجدار صلب: موقف المقاومة من جهة، وتحفّظ الجيش من جهة ثانية. فرغم كل الضغوط السعودية والأميركية، لم يظهر أن الجيش مستعد للانخراط في مهمة يراها خارج قدراته وخطرة على وحدة البلاد.
توضيح قائد الجيش في جلسة الحكومة كان كافياً لقطع الطريق على الرهانات: الجيش غير جاهز لتنفيذ مهمة نزع السلاح، لا على المستوى العسكري ولا اللوجستي ولا حتى السياسي. وهو موقف لا يعبّر فقط عن تقدير للقدرات الواقعية، بل عن فهم لتوازنات البلد التي تجعل من الجيش مؤسسة لا تنجرّ إلى تغطية قرارات سياسية منحازة.
خيبة الخارج وعجز الداخل
الجهات المناهضة للمقاومة في الداخل بدت عاجزة عن أكثر من رفع الصوت ومناشدة الخارج للتدخل. أما الضغوط السعودية والأميركية فلم تنجح في انتزاع أي التزام إسرائيلي يُسهّل مهمة الحكومة اللبنانية. المبعوث الأميركي توم برّاك عاد من بيروت محبطاً، بعدما فشل في إقناع تل أبيب بتقديم أي تنازل ولو شكلي، فيما قوبل في واشنطن بحصار من الصقور المقرّبين من اللوبي الإسرائيلي، ما شلّ قدرته على التحرك.
هذا الواقع ترك القوى اللبنانية التي راهنت على الخطة في مأزق مزدوج: من جهة، جيش يرفض زجّه في مواجهة غير محسوبة، ومن جهة أخرى، رعاة إقليميون ودوليون غير قادرين على فرض تنازلات إسرائيلية تعطي المبادرة اللبنانية أي مضمون عملي.
عودة إلى نقطة البداية
في ضوء كل ذلك، يمكن القول إن جلسة الجمعة أعادت الأزمة إلى نقطة البداية. المقاومة ثابتة في موقفها، الجيش متحفّظ عن المغامرة، بري أكثر صراحة في دعمه، والحكومة مكبّلة بين ضغوط الخارج ووقائع الداخل.
الولايات المتحدة ستعيد بلا شك صياغة مقاربتها للبنان، لكن من دون ضمانات بأن إسرائيل ستغيّر حساباتها، وهو ما يجعل الساحة اللبنانية أمام احتمالين: تصعيد الضغوط السياسية والاقتصادية لإجبار المقاومة على التراجع، أو موجة جديدة من الاعتداءات الإسرائيلية تعيد خلط الأوراق.
المشهد بعد جلسة الجمعة لا يحمل حلولاً بقدر ما يفتح الباب أمام جولة جديدة من الضغوط. الارتياح المؤقت الذي شعر به بعض اللبنانيين سرعان ما سيصطدم بالوقائع: الأزمة لم تُحلّ، بل جرى تأجيلها. وفي بلد اعتاد العيش على وقع التسويات المرحلية، يبقى السؤال معلقاً: هل يستطيع لبنان هذه المرة أن يتجاوز لعبة التأجيل، أم أنه سيجد نفسه مجدداً على حافة انفجار يفرضه الخارج وتغذيه الانقسامات الداخلية؟