بيان نزع السلاح: لبنان بين التسوية والانفجار

رامي عازار

2025.09.08 - 10:42
Facebook Share
طباعة

 لم يكن البيان الذي أصدرته الحكومة اللبنانية بشأن خطة الجيش لنزع سلاح حزب الله حدثاً عابراً أو مجرد ورقة رسمية لاحتواء أزمة سياسية. بل جاء كاشفاً لحقيقة أعمق تتجاوز اللحظة الراهنة، لتضع لبنان أمام سؤال وجودي طالما جرى تأجيله: هل يمكن لهذا الكيان الذي تأسس على توازنات هشة وتسويات إقليمية ودولية أن يملك يوماً قراره السيادي الكامل في القضايا المصيرية؟


منذ نشأته، عاش لبنان أسيراً لمعادلة مزدوجة: الداخل المتشظي بالهويات الطائفية والسياسية، والخارج المتربص الذي يرى في البلد ساحة نفوذ وصراع أكثر مما يراه دولة ذات كيان مستقل. من هنا، لا يمكن قراءة البيان إلا باعتباره مرآة لهذه التناقضات، فهو لم يفتح باب الحل بقدر ما كرّس منطق التأجيل وإدارة المخاطر.


تهديدات داخلية متفاقمة
داخلياً، يُنظر إلى موضوع نزع سلاح حزب الله ليس بوصفه نقاشاً تقنياً حول الجيش والدفاع، بل باعتباره قضية وجودية تمس معنى الدولة نفسها. فالبيئة السياسية والطائفية منقسمة بين من يرى السلاح ضمانة بقاء وردعاً أمام إسرائيل، ومن يراه عائقاً أمام قيام دولة سيّدة موحّدة.


أي محاولة لفرض جدول زمني ضاغط أو معالجة عسكرية مباشرة لهذا الملف تهدد بتحويل الانقسام السياسي إلى صدام أهلي، خصوصاً أن مؤسسات الدولة نفسها غير محصّنة من الانقسام. وبذلك يصبح البيان بمثابة محاولة لتفادي الانفجار أكثر من كونه خطوة نحو الحل.


ضغوط إقليمية ودولية
أما خارجياً، فيفتح البيان الباب أمام سلسلة من الضغوط. الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل ترى في سلاح حزب الله عقدة أساسية يجب تفكيكها لإعادة تشكيل التوازن الإقليمي. في المقابل، يبقى لبنان في موقع المتلقي للضغوط أكثر مما هو صانع للقرارات، وهو ما يضاعف هشاشته في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة وانقسام داخلي عميق.


الخطورة هنا أن تتحوّل صيغة “الإدارة المؤقتة للأزمة” إلى مدخل لتصعيد إسرائيلي أو عقوبات دولية، بما يضاعف التهديدات بدل أن يخففها.


إدارة لا حل
في جوهره، البيان الوزاري الأخير ليس سوى أداة لإدارة المخاطر. فقد منع سقوط الحكومة وحافظ على تماسك داخلي هشّ، وأجّل الصدام المباشر بين الجيش والمقاومة، لكنه لم يقترب من جذور المشكلة.


الرهان على التزام إسرائيل بالاتفاقات بدا خياراً لتجنّب المواجهة الداخلية أكثر منه رهاناً واقعياً، إذ اعتادت إسرائيل أن تنتهك التفاهمات من دون حسيب أو رادع. ومع ذلك، يمنح البيان الحكومة ورقة تفاوضية لإظهار التزامها بالقانون الدولي، في مواجهة الطرف الذي يواصل الخروقات الميدانية.


لكن هذه الورقة تبقى محدودة التأثير، لأن الإرادة السياسية اللبنانية نفسها غالباً ما تُكبّلها حسابات الخارج وتوازنات الداخل، وهو ما يجعل أي مكسب تفاوضي هشّاً وسريع التبدد.


السلاح في الاستراتيجية الإسرائيلية
من زاوية إسرائيل، لا يشكّل سلاح حزب الله مجرد تهديد تكتيكي بل تحدياً استراتيجياً لمشروعها التوسعي. فرغم الحروب المتكررة والاعتداءات المستمرة، لم تستطع تل أبيب تحييد هذا السلاح أو نزع تأثيره، بل تحوّل إلى عنصر ردع أساسي منعها من إعادة احتلال الجنوب.


في ظل العقيدة الأمنية الجديدة للجيش الإسرائيلي، القائمة على مبدأ “التفوّق عبر الهجوم المستمر”، يُنظر إلى أي صيغة لبنانية تُبقي على سلاح المقاومة كعائق يجب تجاوزه. وهذا يفسر استمرار الاعتداءات على الحدود ومحاولات فرض وقائع جديدة رغم كل البيانات اللبنانية.


أبعاد ثلاثة
يمكن اختصار وظيفة البيان بثلاثة أبعاد رئيسية:
إدارة التناقض عبر تأجيل المواجهة بين مطلب النزع وواقع الحاجة إلى السلاح.
تجميد الأزمة بخلق منطقة رمادية تسمح للجميع بادعاء تحقيق مكاسب جزئية.
توسيع الشرعية من خلال تقديم لبنان كدولة ملتزمة بالقانون الدولي، حتى لو لم يؤد ذلك إلى نتائج عملية بسبب الانحياز الغربي لإسرائيل.


بين الهدنة والانفجار
في المحصلة، البيان الحكومي يشبه جسراً خشبياً فوق نهر هائج: قد يتيح للبنان عبور مرحلة خطرة، لكنه مهدد بالانهيار عند أول فيضان سياسي أو أمني. هو هدنة مؤقتة أكثر منه مسار حل، وتأجيل للأزمة بدل معالجتها.


لبنان اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم: إما أن يظل يدور في حلقة مفرغة من التسويات المؤقتة والبيانات الهشة، أو أن يواجه جذر الأزمة عبر حوار وطني صريح حول معنى الدولة وحدود السيادة وعلاقة السلاح بالكيان. وبين هذين الخيارين، سيبقى البيان الأخير مثالاً مكثفاً على معادلة لبنانية مألوفة: إدارة الانقسام بدل حسمه.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 10