بعد أكثر من عقد من الحرب التي دمّرت البنية التحتية وشردت الملايين، تدخل سوريا اليوم مرحلة جديدة عنوانها إعادة البناء والتنمية المستدامة. وقد شكّل إطلاق "صندوق التنمية السوري" علامة فارقة في هذا التحول، إذ جاء كإطار وطني جامع لتوحيد الموارد وتوجيهها نحو مشاريع حيوية تضع الأساس لمستقبل مختلف.
إعلان تاريخي في قلب دمشق
في الرابع من سبتمبر/أيلول 2025، تحولت قلعة دمشق إلى منصة لحدث اعتبره كثيرون تاريخياً، حيث أُعلن عن تأسيس "صندوق التنمية السوري" بموجب المرسوم الرئاسي رقم 112. حضر الرئيس أحمد الشرع الإعلان، إلى جانب مسؤولين ورجال أعمال وأكاديميين، في أجواء احتفالية تابعتها جماهير واسعة عبر شاشات في مختلف المحافظات.
رمزياً، خُصصت عائدات مزاد علني لبيع سيارات فارهة بلغت قيمتها 20 مليون دولار لدعم الصندوق، في خطوة عكست البعد الوطني للمبادرة ورسالة بأن الموارد مهما كانت صغيرة أو كبيرة يمكن أن تسهم في بناء سوريا الجديدة.
أرقام الخسائر… حجم التحدي
المشهد أمام الصندوق الجديد لا يخلو من تحديات كبرى. فالتقديرات تشير إلى خسائر اقتصادية تراكمية تجاوزت 800 مليار دولار منذ عام 2011، إلى جانب وجود 14 مليون متر مكعب من الركام، وتدمير أكثر من 3000 كيلومتر من الطرق. كما تحتاج البلاد إلى ما لا يقل عن 250 ألف وحدة سكنية لإعادة إيواء النازحين، في وقت انخفض الناتج المحلي بنسبة 85% بين 2011 و2023.
المأساة لم تقتصر على الاقتصاد، إذ يعيش 75% من السكان في حالة انعدام أمن غذائي، فيما تضرر أكثر من نصف المرافق الصحية والتعليمية، وانخفضت إمدادات المياه بنسبة 40% مقارنة بما قبل الحرب.
عودة النازحين… ضغط إضافي
خلال العام الماضي فقط، عاد نحو مليون ونصف سوري إلى الداخل، ما شكّل ضغطاً متزايداً على الخدمات الأساسية. هذا الواقع جعل من قضية العودة وإعادة الاستقرار أولوية للصندوق، خصوصاً مع وجود ملايين السوريين الآخرين الذين يفكرون بالعودة في السنوات المقبلة.
استجابة داخلية وخارجية
المبادرة لاقت دعماً واسعاً من رجال أعمال سوريين في الداخل والخارج، حيث تجاوزت التبرعات الأولية 60 مليون دولار خلال ساعات من الإطلاق. ومع أن هذا الرقم لا يقارن بحجم الحاجة، فإنه يشكل إشارة واضحة إلى استعداد قطاعات واسعة للمشاركة في عملية الإعمار إذا ما توافرت الشفافية والحوكمة.
أولويات واضحة… وخطة بعيدة المدى
وضع الصندوق خطة استراتيجية تقوم على أربعة مسارات أساسية:
استعادة الاستقرار وإدارة العودة: توفير 50 ألف وحدة سكنية عاجلة، ووضع خطة حتى عام 2035 لإعادة توطين سبعة ملايين سوري في مجتمعات متماسكة.
إعادة تأهيل البنية التحتية: رفع ساعات الكهرباء إلى 12 ساعة يومياً بحلول 2026، وبناء ست محطات طاقة متجددة بقدرة 3000 ميغاواط بحلول 2030، إضافة إلى إصلاح 400 محطة ضخ مياه وتوفير مياه نظيفة لمليوني مواطن.
دعم القطاعات الحيوية: دعم نصف مليون مزارع واستصلاح مليون هكتار لتحقيق اكتفاء ذاتي بالقمح بنسبة 70%، إلى جانب إعادة تأهيل 200 محطة اتصالات لتوسيع شبكة الإنترنت.
الاستثمار في الإنسان: ترميم 3000 مدرسة، وإنشاء 500 مدرسة جديدة و20 معهداً عالياً، إضافة إلى بناء 200 مركز صحي وتوظيف 5000 عامل صحي، إلى جانب مراكز رعاية للأيتام وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.
بناء الثقة… التحدي الأكبر
على الرغم من الحماس، يدرك القائمون على الصندوق أن التحدي الأهم ليس المال وحده، بل بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. الشفافية في إدارة الأموال، وإشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني في صنع القرار، تعد مفاتيح لنجاح المشروع وتحويله إلى منصة وطنية شاملة.
نحو مستقبل مختلف
صندوق التنمية السوري لا يُقدَّم بوصفه مبادرة إسعافية، بل كاستثمار طويل الأمد يرمي إلى تحويل الكارثة إلى فرصة لبناء اقتصاد أكثر تماسكاً واستدامة. وبينما تبقى التحديات السياسية والمالية قائمة، يرى كثيرون أن نجاح الصندوق سيكون المعيار الحقيقي لقدرة السوريين على تجاوز الانقسام، وإعادة إطلاق وطنهم من جديد.
في النهاية، يختبر الصندوق الوليد قدرة السوريين على التعاون والتكاتف. وبينما تصل تقديرات إعادة الإعمار إلى مئات المليارات، يبقى الأمل أن تكون هذه المبادرة الشرارة الأولى لمرحلة جديدة تنقل سوريا من رماد الحرب إلى مسار التنمية والاستقرار.