على الرغم من أن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى بكين حملت طابعاً سياسياً بامتياز، فإن الجانب الاقتصادي كان اللاعب الأبرز في لقاءاته مع نظيره الصيني شي جين بينغ. فقد فتحت المباحثات الباب أمام ملفات التجارة والطاقة والاستثمار والنقل، في وقت يدرك فيه الطرفان أن الاقتصاد أصبح المحرك الأساسي للعلاقات بينهما، لا سيما في ظل تحولات جذرية يشهدها العالم.
العقوبات والبحث عن بدائل
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجدت روسيا نفسها في مواجهة مباشرة مع العقوبات الغربية التي شملت تجميد نحو 300 مليار دولار من احتياطياتها، وعزل بنوكها عن نظام "سويفت" للتحويلات المالية، وفرض قيود صارمة على استيراد التقنيات الغربية. هذا الواقع جعل من الصين "طوق نجاة" لاقتصاد موسكو، حيث تحولت إلى الشريك التجاري الأبرز الذي ساعد الكرملين على تمويل حاجاته في ظل الحرب المستمرة.
ولا يقتصر التعاون على التجارة التقليدية، بل يشمل تزويد بكين لروسيا بمعادن استراتيجية مثل الغاليوم والغرمانيوم والأنتيمون، وهي عناصر أساسية في صناعة المسيّرات والصواريخ. ورغم أن الغرب يوجّه اتهامات متكررة للصين في هذا المجال، فإن بكين تنفي تقديم أي دعم عسكري مباشر لموسكو، مكتفية بالتصويب على التعاون الاقتصادي والتجاري.
أرقام تكشف التحديات
في عام 2024، وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين إلى ذروته التاريخية، لكن الأشهر الأولى من 2025 شهدت تراجعاً ملحوظاً بنسبة 8% مقارنة بالعام الماضي، إذ بلغ حجم التبادل نحو 235 مليار دولار.
ويعود هذا التراجع إلى عدة عوامل، أبرزها انخفاض أسعار الطاقة العالمية بنسبة تراوحت بين 10% و15%، إضافة إلى ارتفاع قيمة الروبل مقابل اليوان والدولار، ما أثر سلباً على تنافسية الصادرات الروسية. ومع ذلك، يبقى لافتاً أن أكثر من 90% من المبادلات باتت تُجرى بالعملات الوطنية، وهو تطور نوعي يقلل من أثر العقوبات الغربية ويعزز استقلالية الطرفين عن الدولار الأميركي.
استعادة الزخم
في ضوء هذه التحديات، جاءت لقاءات بوتين في بكين كفرصة لإعادة ضخ الزخم في العلاقات التجارية. التوقعات تشير إلى إمكانية عودة النمو بحلول نهاية العام إذا ما استعاد قطاعا التصدير والاستيراد نشاطهما، مع إعادة تقييم أسعار الصرف وتعديل آليات الدفع.
هذا التوجه لا يخدم روسيا وحدها، فالصين بدورها تواجه ضغوطاً متزايدة نتيجة الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وتراجع تبادلاتها مع واشنطن إلى أدنى مستوياتها منذ 19 عاماً. وبالتالي، يبدو التقارب مع موسكو بمثابة رافعة استراتيجية تسمح لبكين بتعويض جزء من خسائرها وتثبيت مكانتها كقطب اقتصادي عالمي.
مصالح متبادلة في عالم متغير
الصين تبحث عن أسواق جديدة، وروسيا تبحث عن منافذ بديلة. هذه المعادلة جعلت من الطرفين شريكين مثاليين في لحظة دولية معقدة. فبينما تراجعت واردات الولايات المتحدة من الصين بنحو 36%، برزت روسيا كسوق واعدة للمنتجات الصينية. وفي المقابل، تحولت بكين إلى المشتري الأكبر للطاقة الروسية، وهو ما سمح لموسكو بتعويض جزء من خسائرها نتيجة المقاطعة الأوروبية.
ولم يتوقف التعاون عند حدود التجارة، بل شمل توقيع اتفاقيات جديدة لتوريد الغاز الروسي بكميات تقارب ما كانت موسكو تصدره سابقاً إلى أوروبا، ما يعكس تحولاً استراتيجياً في خريطة الطاقة العالمية، حيث باتت الأنظار تتجه أكثر نحو الشرق.
رسائل إلى الغرب
بكلمات أخرى، حملت زيارة بوتين للصين رسائل تتجاوز الاقتصاد. فهي تقول إن موسكو ليست معزولة كما يحاول الغرب تصويرها، وإنها قادرة على بناء تحالفات وشراكات بديلة تعزز مكانتها الدولية. في المقابل، يرى محللون أن الغرب نفسه قد يجد نفسه في عزلة إذا استمرت المواجهة الاقتصادية على هذا النحو.
ختام
الخلاصة أن بوتين خرج من بكين وقد عزز رهانه على الشراكة مع الصين، في وقت يحتاج فيه اقتصاد بلاده إلى سند قوي يواجه به العقوبات الغربية. أما بكين، فقد وجدت في موسكو شريكاً استراتيجياً يعزز مساعيها في بناء عالم متعدد الأقطاب. وهكذا، لم تكن زيارة بوتين إلى الصين مجرد بروتوكول سياسي، بل محطة مفصلية في صياغة تحالف اقتصادي جديد يرسم ملامح المرحلة المقبلة.