حمص تعيد نسج خيوطها الممزقة

رزان الحاج

2025.09.06 - 11:00
Facebook Share
طباعة

 في قلب سوريا، حيث عاشت مدينة حمص سنوات طويلة من التوترات والانقسامات، بدأت ملامح مرحلة جديدة تتشكل، تقوم على الحوار والسعي إلى إعادة اللحمة المجتمعية. حمص، التي كانت تُوصف يوماً بأنها "عاصمة الثورة" ودفعت ثمناً باهظاً من أرواح أبنائها ودمار أحيائها، تقف اليوم أمام اختبار صعب: هل تستطيع أن تتحول إلى نموذج للتعايش والمصالحة؟


على مدار عقود طويلة، تراكمت السياسات الخاطئة التي كرّست الانقسامات بين أبناء المدينة. فسياسة الرأي الواحد والتمييز في المؤسسات، وتعزيز النفوذ الطائفي والسياسي، كلها عوامل أضعفت ثقة الناس ببعضهم البعض. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تفاقمت هذه الانقسامات وتعقدت، حتى وصل المجتمع الحمصي إلى حالة من التصدع غير المسبوق.


لكن وسط هذا الواقع المليء بالجراح، تعالت أصوات من داخل المدينة تدعو إلى تجاوز الماضي وبناء مستقبل قائم على التعايش. مواطنون وناشطون وشباب يرون أن الطريق إلى المصالحة ليس سهلاً، لكنه ضروري ولا غنى عنه.


الثقة المفقودة وإمكانية استعادتها
تجمع شهادات أبناء حمص على أن التعايش بين المكونات لم يكن غائباً تماماً في السابق، لكنه تعرض لضربات عميقة خلال الحرب. بعضهم يرى أن المشكلات لم تكن بين الطوائف بقدر ما كانت بين أفراد استغلوا الانقسامات لمصالحهم. ويؤكد هؤلاء أن إعادة الثقة تبدأ من إصلاح منظومة القيم المجتمعية، وتعزيز دور المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية في نشر ثقافة العيش المشترك.


من جهة أخرى، هناك من يعتبر أن الحل الحقيقي يكمن في العدالة وتطبيق القوانين على الجميع دون استثناء، لأن غياب المحاسبة هو ما عمّق الجراح. هؤلاء يشددون على أن أي مشروع للمصالحة يجب أن يترافق مع الاعتراف بالأخطاء ومحاسبة المسؤولين عنها، سواء كانوا شخصيات بارزة أم أفراداً عاديين.


مبادرات محلية وتجارب مؤلمة
شهدت المدينة عدداً من المبادرات المحلية التي هدفت إلى جمع الناس على طاولة الحوار. بعضها ركز على فتح مساحة للتعبير عن التجارب الشخصية المؤلمة، بينما سعى البعض الآخر إلى إيجاد حلول عملية للانقسام. ورغم أن النتائج لم تظهر بشكل سريع، إلا أن هذه الجهود اعتُبرت بذوراً ضرورية لمصالحة طويلة المدى.


لكن التحدي الأكبر الذي أشار إليه المشاركون في هذه المبادرات هو صعوبة الجمع بين العاطفة والعقل. فالمجتمع، الذي عاش سنوات من الألم والخوف والخسارة، يحتاج إلى معالجة وجدانية تعيد له القدرة على التسامح، بالتوازي مع حلول عقلانية تضمن استمرار الدولة والمجتمع.


دور الشباب والنساء
الكثير من الناشطين في حمص يرون أن الشباب والنساء هم الأكثر قدرة على قيادة عملية المصالحة. فالشباب بطبيعتهم أكثر انفتاحاً وتواصلاً، بينما النساء غالباً ما يلعبن دوراً محورياً في ترميم العلاقات داخل الأسرة والمجتمع. غير أن المشاركة في هذه المبادرات لا تزال محدودة أحياناً، ما يشير إلى الحاجة لتوسيع دائرة الشمول وعدم الاكتفاء بفئة واحدة.


تحديات قائمة على الأرض
رغم بعض المؤشرات الإيجابية، لا يزال الخوف عالقاً في نفوس كثير من الناس. فالحرب تركت آثاراً عميقة على العلاقات الاجتماعية، وزادت من هشاشة الثقة بين الأحياء والطوائف. النزوح، خسارة الممتلكات، العنف، والذكريات القاسية كلها عوامل تجعل العودة إلى الوضع الطبيعي عملية بطيئة ومعقدة.


إلى جانب ذلك، يبقى الانقسام الجغرافي داخل المدينة عاملاً مؤثراً. فالأحياء ذات اللون الطائفي الواحد تبدو أكثر ميلاً إلى الانغلاق، بينما المناطق المختلطة توفر أرضية أفضل لبناء جسور جديدة من التعايش.


العدالة أساس المصالحة
يتفق كثيرون في حمص على أن العدالة هي الركيزة الأساسية لأي مصالحة حقيقية. فالمجتمع الذي شهد الخيانة بين الجيران والانقسامات بين الأحياء لا يمكن أن يستعيد ثقته ما لم تُطبّق القوانين بشكل عادل، ويُحاسب كل من ارتكب جرماً بحق الآخرين. هذه العدالة لا تعني الانتقام، بل توفير ضمانة للجميع بأن المستقبل لن يكرر مآسي الماضي.


نحو نموذج للتعافي
ورغم التحديات الثقيلة، فإن الأمل لا يغيب عن أحاديث أبناء حمص. البعض يرى أن المدينة قد تتحول إلى نموذج وطني للتعافي والمصالحة، إذا استطاع أبناؤها أن يضعوا مصلحة المجتمع فوق أي انتماء آخر. المبادرات المدنية، الحوار بين المكونات، ودور المؤسسات المحلية يمكن أن تشكل جميعها أساساً لبناء ثقة جديدة.


حمص اليوم ليست المدينة نفسها التي عرفها السوريون قبل عقد ونصف، لكنها أيضاً ليست أسيرة الماضي بالكامل. إرادة التغيير موجودة، ورغبة الناس في العيش المشترك حقيقية، حتى لو غطتها طبقات من الألم. وبين العدالة والحوار والمبادرات الشعبية، قد تتمكن المدينة من إعادة نسج خيوطها الممزقة، وتقديم درس لسوريا بأكملها: أن التعايش ممكن، مهما كانت الجراح عميقة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 9