كشفت تقارير إعلامية دولية عن إبرام شركة غوغل عقدًا بقيمة 45 مليون دولار مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا حول حدود العلاقة بين شركات التكنولوجيا العملاقة والحكومات المنخرطة في صراعات دموية. العقد، الذي بدأ العمل به في أواخر يونيو 2025 ويمتد لستة أشهر، يهدف بشكل مباشر إلى تسويق البروباغندا الإسرائيلية عبر المنصات الرقمية، وخاصة "يوتيوب" وشبكات الإعلان التابعة لغوغل.
"هاسبارا" رقمية
بحسب ما نشره موقع "دروب سايت"، فإن الوثائق الرسمية تصف الحملة باستخدام مصطلح "هاسبارا" العبري، وهو التعبير الذي يشير إلى الدعاية الحكومية الإسرائيلية الموجهة للرأي العام الدولي. الهدف المعلن يتمثل في تضخيم الرواية الإسرائيلية حول الحرب في غزة، ونفي ما أعلنته منظمات الأمم المتحدة بشأن تفاقم المجاعة الناجمة عن الحصار الإسرائيلي.
وتتضمن الحملة إنفاق ملايين الدولارات على إعلانات الفيديو المدفوعة، استقطاب مؤثرين أمريكيين، واستخدام منصات كبرى مثل X وOutbrain وTeads لنشر مضامين مؤدلجة تستهدف شرائح مختلفة من الجمهور العالمي.
ما يزيد من خطورة هذا الكشف أنه جاء بالتزامن مع موجة احتجاجات عالمية على تفاقم الجوع في غزة، حيث أشارت تقارير أممية إلى أن الوضع الإنساني تجاوز حدود "الكارثة". هذه المفارقة تضع غوغل تحت المجهر، إذ تتحول من مجرد منصة إعلانية إلى شريك مباشر في معركة الوعي التي تخوضها إسرائيل لتبييض صورتها والتشويش على التقارير المستقلة.
استهداف الأونروا والتشويه المنهجي
ليست هذه المرة الأولى التي تستثمر فيها إسرائيل في الدعاية الرقمية عبر المنصات الأمريكية. فقد كشفت مجلة "وايرد" في وقت سابق أن إسرائيل أطلقت منذ العام الماضي حملة ممولة عبر غوغل لتشويه سمعة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). هذا ما أكدته رسميًا هداس ميمون، رئيسة قسم التوعية العامة في وزارة الشتات الإسرائيلية، خلال جلسة استماع بالكنيست في مارس الماضي.
الحملات لا تقتصر على غزة فحسب، بل تمتد إلى بناء صورة نمطية سلبية عن المؤسسات الأممية، وإعادة صياغة الوقائع لتبرير الغارات الجوية على أنها ضرورة "أمنية" لحماية إسرائيل والغرب.
تقاطعات مع تقارير عربية ودولية
في أوائل أغسطس الماضي، نشرت منظمة "مسبار" العربية لتدقيق الحقائق افتتاحية أكدت فيها أن البيانات المستخرجة من بوابات شفافية الإعلانات التابعة لغوغل وميتا تثبت وجود حملة دعائية إسرائيلية واسعة خلال عملية "الأسد الصاعد". واعتبرت "مسبار" أن هذه الحملات اعتمدت على معلومات مضللة لتبرير الغارات، في تكرار لسياسات إسرائيل في خلط الأوراق بين "الأمن" و"القمع".
معركة على العقول
تكشف هذه المعلومات أن الحرب في غزة لم تعد محصورة في الميدان العسكري أو السياسي، بل امتدت إلى المجال الرقمي والإعلامي حيث تتحول الشركات العملاقة إلى أدوات صراع. تعاقد غوغل مع مكتب نتنياهو يطرح أسئلة خطيرة حول أخلاقيات الشركات الغربية ودورها في التغطية على انتهاكات إنسانية موثقة، ما يجعل "معركة الرواية" أحد أهم ميادين الصراع في المرحلة الراهنة.
"هاسبارا": من خطاب رسمي إلى صناعة دعاية عابرة للحدود
مصطلح "هاسبارا" (Hasbara) في العبرية يعني حرفيًا "الشرح" أو "التوضيح"، لكنه في السياق السياسي الإسرائيلي تحول منذ عقود إلى منظومة متكاملة للدعاية الموجهة.
ظهر المفهوم بوضوح بعد حرب 1948 وتأسيس إسرائيل، حين واجهت الدولة الوليدة تحديًا في إقناع الرأي العام الغربي بشرعية وجودها رغم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين. ومنذ ذلك الحين، تطورت "الهاسبارا" لتصبح سياسة دولة، تتبناها وزارات الخارجية والشتات والإعلام، وتنفذها عبر شبكات متخصصة في الجامعات، الإعلام، ومراكز الفكر.
أدوات "الهاسبارا" التقليدية
في عقود سابقة، اعتمدت إسرائيل على الوفود الدبلوماسية والإعلام التقليدي لتمرير خطابها. فكان يتم إرسال متحدثين رسميين إلى القنوات الغربية، وتوزيع بيانات صحفية منسقة، إضافة إلى تنظيم جولات ميدانية للصحفيين الأجانب لتوجيه التغطية الإعلامية بما يخدم الموقف الإسرائيلي.
التحول الرقمي
مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، دخلت "الهاسبارا" مرحلة جديدة: تجنيد جيوش إلكترونية من المتطوعين (طلاب، نشطاء، موظفون)، ممن يتلقون تدريبًا ودروسًا عبر منصات رسمية لكيفية الرد على الانتقادات الموجهة لإسرائيل، خصوصًا خلال الحروب على غزة.
وأصبح التمويل الحكومي موجهًا إلى حملات إعلانات مدفوعة، وتوظيف خوارزميات منصات كبرى مثل غوغل وميتا، لضمان وصول الرواية الإسرائيلية إلى أوسع جمهور ممكن، بل والتغلب على الخطاب البديل القادم من المجتمع المدني أو المؤسسات الحقوقية.
صناعة الوعي وتبييض الانتهاكات
جوهر "الهاسبارا" لا يقوم على مجرد الشرح، بل على إعادة صياغة الوقائع. فعندما يتحدث العالم عن "حصار" في غزة، تحاول "الهاسبارا" تصويره كـ"إجراءات أمنية". وعندما تسقط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، يُعاد تقديم الأمر على أنه "نتيجة حتمية لقتال الإرهابيين". هذا الانزياح الخطابي هو الذي يجعل من "الهاسبارا" أكثر من مجرد دعاية، بل أداة استراتيجية في الحرب على العقول.
البعد الأخلاقي والسياسي
انخراط شركات مثل غوغل في عقود مباشرة لدعم "الهاسبارا" يعكس تحولًا خطيرًا: لم تعد هذه الحملات مقصورة على المؤسسات الحكومية الإسرائيلية، بل دخلت إليها شركات التكنولوجيا العالمية التي تملك قدرة هائلة على التحكم في تدفق المعلومات. وهو ما يثير تساؤلات حول مدى التزام تلك الشركات بمبادئ الحياد وحرية تداول المعلومات، خاصة في قضايا حساسة تتعلق بحقوق الإنسان.
الدعاية الإسرائيلية في سياق عالمي: تشابه مع الحرب الباردة وحرب العراق
ما تقوم به إسرائيل عبر عقود "الهاسبارا" ليس ظاهرة معزولة، بل يندرج في إطار أوسع من حروب المعلومات التي مارستها قوى كبرى عبر التاريخ.
الحرب الباردة: الإعلام كسلاح
خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لعب الإعلام دورًا لا يقل أهمية عن الترسانات النووية. أنشأت واشنطن منصات مثل راديو أوروبا الحرة وصوت أمريكا لبث رسائل سياسية داخل الكتلة الشرقية، فيما اعتمد السوفييت على شبكات مثل برافدا و"الإذاعات الموجهة" لتصدير روايتهم. كان الهدف واضحًا: كسب العقول قبل كسب المعارك. وهذا بالضبط ما تعيد إسرائيل تكراره اليوم، لكن بأدوات رقمية أكثر تطورًا.
حرب العراق 2003: "أسلحة الدمار الشامل"
أبرز مثال معاصر على توظيف الدعاية كان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. اعتمدت إدارة جورج بوش على خطاب إعلامي واسع النطاق حول وجود "أسلحة دمار شامل" لدى نظام صدام حسين، وهو ادعاء تبين لاحقًا أنه مفبرك. الإعلام الغربي لعب دورًا في تسويق الحرب وتبريرها للرأي العام، تمامًا كما تحاول إسرائيل عبر "الهاسبارا" إعادة تعريف حصار غزة ومآسيه على أنه "ضرورة أمنية".
التشابه يكمن في استخدام الأكاذيب أو التلاعب بالمعلومات لإعادة صياغة الواقع.
أما الاختلاف فيكمن في طبيعة الوسيط: في الحرب الباردة والإعلام التقليدي، كانت السيطرة تتم عبر محطات إذاعة وصحف كبرى، بينما اليوم تتحقق عبر الخوارزميات والمنصات الرقمية التي تصل إلى مليارات المستخدمين في لحظة واحدة.
هذا السياق المقارن يكشف أن ما تقوم به إسرائيل ليس مجرد حملة دعاية عابرة، بل امتداد لنهج قديم في تسليح الإعلام كأداة استراتيجية. لكن الفارق أن الانخراط المباشر لشركات مثل غوغل وميتا يرفع مستوى الجدل، إذ تتحول شركات خاصة يفترض أنها "محايدة" إلى لاعبين نشطين في الحروب الجيوسياسية.